والدليل الواضح، والشاهد القاطع، قول النبي صلّى الله عليه وسلّم:«نصرت بالصبا، وأعطيت جوامع الكلم» ، وهو القليل الجامع للكثير. وقال الله تعالى وقوله الحق: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ
ثم قال: وَما يَنْبَغِي لَهُ
ثم قال: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ
فعم ولم يخص، وأطلق ولم يقيد. فمن الخصال التي ذمهم بها تكلف الصنعة، والخروج إلى المباهاة، والتشاغل عن كثير من الطاعة، ومناسبة أصحاب التشديق. ومن كان كذلك كان أشد افتقارا إلى السامع من السامع إليه، لشغفه أن يذكر في البلغاء، وصبابته باللحاق بالشعراء. ومن كان كذلك غلبت عليه المنافسة والمغالبة، وولد ذلك في قلبه شدة الحمية، وحب المجاذبة.
ومن سخف هذا السّخف، وغلب الشيطان عليه هذه الغلبة، كانت حاله داعية إلى قول الزور، والفخر بالكذب، وصرف الرغبة إلى الناس، والإفراط في مديح من أعطاه، وذم من منعه. فنزّه الله رسوله، ولم يعلمه الكتاب والحساب، ولم يرغبه في صنعة الكلام، والتعبد لطلب الألفاظ، والتكلف لإستخراج المعاني فجمع له باله كله في الدعاء إلى الله، والصبر عليه، والمجاهدة فيه، والإنبتات إليه والميل إلى كل ما قرب منه، فأعطاه الإخلاص الذي لا يشوبه رياء، واليقين الذي لا يطوره شك، والعزم المتمكن، والقوة الفاصلة.
فإذا رأت مكانه الشعراء، وفهمته الخطباء، ومن قد تعبّد للمعاني، وتعود نظمها وتنضيدها، وتأليفها وتنسيقها، واستخراجها من مدافنها، وإثارتها من مكامنها علموا أنهم لا يبلغون بجميع ما معهم مما قد استفرغهم واستغرق مجهودهم، وبكثير ما قد خولوه، قليلا مما يكون معه على البداهة والفجاءة، من غير تقدم في طلبه، واختلاف إلى أهله.
وكانوا مع تلك المقامات والسياسات، ومع تلك الكلف والرياضات، لا ينفكون في بعض تلك المقامات من بعض الإستكراه والزلل، ومن بعض التعقيد والخطل، ومن التفنن «١» والإنتشار، ومن التشديق والإكثار.