إن الله إنما جعل نبيه أميّا لا يكتب ولا يحسب ولا ينسب، ولا يقرض الشعر، ولا يتكلّف الخطابة، ولا يتعمّد البلاغة، لينفرد الله بتعليمه الفقه وأحكام الشريعة، ويقصره على معرفة مصالح الدين دون ما تتباهى به العرب:
من قيافة الأثر والبشر «١» ، ومن العلم بالأنواء وبالخيل، وبالأنساب وبالأخبار، وتكلف قول الأشعار، ليكون إذا جاء بالقرآن الحكيم، وتكلم بالكلام العجيب، كان ذلك أدل على أنه من الله.
وزعم أن الله تعالى لم يمنعه معرفة آدابهم وأخبارهم وأشعارهم ليكون أنقص حظا من الحاسب الكاتب، ومن الخطيب الناسب، ولكن ليجعله نبيا، وليتولى من تعليمه ما هو أزكى وأنمى. فإنما نقصه ليزيده، ومنعه ليعطيه، وحجبه عن القليل ليجلّي له الكثير.
وقد أخطأ هذا الشيخ ولم يرد إلا الخير، وقال بمبلغ علمه ومنتهى رأيه ونوزعم أن أداة الحساب والكتابة، وأداة قرض الشعر ورواية جميع النسيب، قد كانت فيه تامة وافرة، ومجتمعة كاملة، ولكنه صلّى الله عليه وسلّم صرف تلك القوى وتلك الإستطاعة إلى ما هو أزكى بالنبوة، وإذا احتاج إلى الخطابة كان أخطب الخطباء، وأنسب من كل ناسب، وأقوف من كل قائف، ولو كان في ظاهره، ثم أعطاه الله برهانات الرسالة، وعلامات النبوة- ما كان ذلك بمانع من وجوب تصديقه، ولزوم طاعته، والإنقياد لأمره على سخطهم ورضاهم، ومكروههم ومحبوبهم. ولكنه أراد ألا يكون للشاغب متعلق عما دعا إليه حتى لا يكون دون المعرفة بحقه حجاب وإن رقّ، وليكون ذلك أخفّ في المؤونة، وأسهل في المحنة. فلذلك صرف نفسه عن الأمور التي كانوا يتكلفونها ويتنافسون فيها، فلما طال هجرانه لقرض الشعر وروايته، صار لسانه لا ينطلق به، والعادة توأم الطبيعة. فأما في غير ذلك فإنه إذا شاء كان أنطق من كل منطيق،