الهيئة، ولشغلهم التعجب منه عن مساواة صاحبه به، ولصار التعجب منه سببا للعجب به، ولصار الإكثار في شأنه علة للإكثار في مدحه، لأن النفوس كانت له أحقر، ومن بيانه أيأس، ومن حسده أبعد. فإذا هجموا منه على ما لم يكونوا يحتسبونه، وظهر منه خلاف ما قدروه، تضاعف حسن كلامه في صدورهم، وكبر في عيونهم لأن الشيء من غير معدنه أغرب، وكلما كان أغرب كان أبعد في الوهم وكلما كان أبعد في الوهم كان أطرف، وكلما كان أطرف كان أعجب، وكلما كان أعجب كان أبدع. وإنما ذلك كنوادر كلام الصبيان وملح المجانين، فإن ضحك السامعين من ذلك أشد، وتعجبهم به أكثر. والناس موكلون بتعظيم الغريب، واستطراف البعيد، وليس لهم في الموجود الراهن، وفيما تحت قدرتهم من الرأي والهوى، مثل الذي زهّد الجيران في عالمهم، والاصحاب في الفائدة من صاحبهم. وعلى هذا السبيل يستطرفون القادم عليهم، ويرحلون إلى النازح عنهم، ويتركون من هو أعم نفعا وأكثر في وجوه العلم تصرفا، وأخف مؤونة وأكثر فائدة ولذلك قدّم بعض الناس الخارجي «١» على العريق، والطارف على التلبد وكان يقول: إذا كان الخليفة بليغا والسيد خطيبا، فإنك تجد جمهور الناس وأكثر الخاصة فيهما على أمرين: إما رجلا يعطي كلامهما من التعظيم والتفضيل، والإكبار والتبجيل، على قدر حالهما في نفسه، وموقعهما من قلبه، وإما رجلا تعرض له التهمة لنفسه فيهما، والخوف من أن يكون تعظيمه لهما يوهمه من صواب قولهما، وبلاغة كلامهما، ما ليس عندهما حتى يفرط في الإشفاق، ويسرف في التهمة. فالأول يزيد في حقه للذي له في نفسه، والآخر ينقصه من حقه لتهمته لنفسه، ولإشفاقه من أن يكون مخدوعا في أمره.
فإذا كان الحب يعمي عن المساوىء فالبغض أيضا يعمي عن المحاسن. وليس يعرف حقائق مقادير المعاني، ومحصول حدود لطائف الأمور، إلا عالم حكيم، ومعتدل الأخلاط عليم، وإلا القويّ المنة، الوثيق العقدة، والذي لا يميل مع ما يستميل الجمهور الأعظم، والسواد الأكبر.