وعلى التقديرين لجزم أم المؤمنين بهذا دليل على أنه لا يسوغ فيه الاجتهاد, ولو كانت هذه من مسائل الاجتهاد والنزاع بين الصحابة لم تطلق عائشة -رضي الله تعالى عنها- ذلك على زيد -رضي الله تعالى عنه-, فإن الحسنات لا تبطل بمسائل الاجتهاد, ولا يقال: فزيد من الصحابة وقد خالفها؛ لأن زيد لم يقل: هذا حلال بل فعله وفعل المجتهد لا يدل على قوله على الصحيح, لاحتمال سهو أو غفلة أو تأويل أو رجوع ونحوه, وكثيراً ما يفعل الرجل الشيء ولا يعلم مفسدته، فإذا نبه له انتبه، ولا سيما أم ولده، فإنها دخلت على عائشة تستفتها وطلبت الرجوع إلى رأس مالها، وهذا يدل على الرجوع عن ذلك العقد، ولم ينقل عن زيد أنه أصر على ذلك, وإن قيل: لا نسلم ثبوت الحديث فإن أم ولد زيد مجهولة, قلنا: أم ولده لم ترو الحديث, وإنما كانت هي صاحبته القصة, وأما العالية فهي امرأة أبي إسحاق السبيعي, وهي من التابعيات وقد دخلت على عائشة، وروى عنها أبو إسحاق، وهو أعلم بها، وفي الحديث قصة وسياق يدل على أنه محفوظ, وأن العالية لم تختلق هذه القصة ولم تضعها, بل يغلب على الظن غلبة قوية صدقها فيها وحفظها لها, ولهذا رواها عنها زوجها ميمون، ولم ينهها، ولا سيما عند من يقول: رواية العدل عن غيره تعديل له, والكذب لم يكن فاشياً في التابعين فشوه فيمن بعدهم, وكثير منهم كان يروي عن أمه وامرأته ما يخبرهن به أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, ويحتج به, فهذه أربعة أحاديث تبيّن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حرم العينة, حديث ابن عمر الذي فيه تغليظ العينة, وحديث أنس وابن عباس أنهما مما حرم الله ورسوله, وحديث عائشة هذا، والمرسل منها له ما يوافقها، وقد عمل به بعض الصحابة والسلف، وهذا حجة باتفاق الفقهاء.
المرسل إذا شهد له العمل من قبل أهل العلم، إذا أفتى بمقتضاه أحد من أهل العلم المعتبرين لا سيما إذا كان من الصحابة, وأفتى به عوام أهل العلم كما يقول الشافعي يدل على أن له أصلاً, نعم.