للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الواقع التاريخي كلَّ الإباء، فإن من تتبع سيرته الشريفة في حركاته وسكناته، وعباراته وإشاراته، في رضاه وغضبه، في خلوته وجلوته .. لا يشكُّ في أنه كان أبعد الناس عن المداجاة والمواربة، وأن سرَّه وعلانيته كانا سواءً في دقة الصدق وصرامة الحق في جليل الشؤون وحقيرها، وأن ذلك كان أخصَّ شمائله وأظهر صفاته قبل النبوة وبعدها، كما شهد ويشهد به أصدقاؤه وأعداؤه (١) إلى يومنا هذا ﴿قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [يونس: ١٦] وما بعدها.

وكأني بك ها هنا تحب أن أقدم لك من سيرته المطهرة مثلًا واضحَ الدلالة على مبلغ صدقه وأمانته في دعوى الوحي الذي نحن بصدده، وأنه لم يكن ليأتي بشيء من القرآن من تلقاء نفسه، فإليك طرفًا من ذلك:

(١)

[حاجة النبيِّ إلى الوحي، وتأخرِّه، دليلٌ على كون القرآن من عند الله]

لقد كانت تنزل به نوازل من شأنها أن تحفزه إلى القول، وكانت حاجته القصوى تلح عليه أن يتكلم بحيث لو كان الأمر إليه لوجد له مقالًا ومجالًا، ولكَّنه كانت تمضي الليالي والأيام تتبعها الليالي والأيام ولا يجد في شأنها قرآنًا يقرؤه على الناس.


(١) اقرأ مثلًا ما كتبه (توماس كارليل) الإنجليزي في كتاب الأبطال، وما كتبه الكونت هنري دي كاستري الفرنسي في خواطره وسوانحه عن الإسلام، ثم اقرأ شهادة قريش التي سجلها أبو سفيان وهو في الجاهلية بين يدي هرقل عظيم الروم لما سألهم هرقل: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا.
وسألهم: هل يغدر؟ قال: لا *.
* هذا الحديث أخرجه البخاري: (٤٥٥٣)، ومسلم: (١٧٧٣) عن ابن عباس، وفيه: أن هرقل قال لأبي سفيان: «فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت [أبو سفيان]: لا»، ثم قال له: وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا، فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يذهب فيكذب على الله».

<<  <   >  >>