والشعراء؛ كقس بن ساعدة، وأمية بن أبي الصلت، وغيرهما، وكانت خطبهم وأشعارهم مشحونة بالدعوة إلى ما دعا إليه القرآن من دين الفطرة.
فما بالهم قد أهمَّهم من أمر محمد وقرآنه ما لم يعنهم من أمر غيره؟ ما ذاك إلا أنهم وجدوا له شأنًا آخر لا يشبه شأن الناس، وأنهم أحسوا في قرآنه قوة غلابة وتيَّارًا جارفًا يريد أن يبسط سلطانه حيث يصل صدى صوته، وأنهم لم يجدوا سبيلًا لمقاومته عن طريق المعارضة الكلامية التي هي هِجِّيراهم (١)، والتي هي الطريق المباشر الذي تحداهم به، فلا جرم كان الطريق الوحيد عندهم لمقاومته هو الحيلولة بمختلف الوسائل بين هذا القرآن وبين الناس مهما كلفهم ذلك من تضحية، وكذلك فعلوا، وكذلك مضت السنة فيمن بعدهم من أعداء القرآن إلى يومنا هذا.
[[شعور العرب بالعجز عن الإتيان بمثله]]
وأما الثالث: فإنه لو كان عجزهم عن مضاهاة القرآن لعارضٍ أصابهم حال بينهم وبين شيء في مقدورهم، لما استبان لهم ذلك العجز إلا بعد أن يبسطوا ألسنتهم إليه، ويجربوا قدرتهم عليه؛ لأنه ما كان لامرئ أن يحس بزوال قدرته عن شيء كان يقدر عليه كقدرته على القيام والقعود إلا بعد محاولة وتجربة، ونحن قد علمنا أنَّهم قعدوا عن هذه التجربة، ولم يشرع منهم في هذه المحاولة إلا أقلهم عددًا، وأسفههم رأيًا. فكان ذلك آية على يأسهم الطبيعي من أنفسهم، وعلى شعورهم بأن عجزهم عنه عجز فطريٌ عتيد، كعجزهم عن إزالة الجبال، وعن تناول النجوم من السماء، وأنَّهم كانوا في غنى بهذا العلم الضروري عن طلب الدليل عليه بالمحاولات والتجارب.
على أنهم لو كانوا لم يعرفوا عجزهم عنه بادئ ذي بدء، وإنما أدركهم العجز بعد شعورهم بأنه في مستوى كلامهم، لكان عجبهم إذًا من أنفسهم: كيف عيوا به وهو منهم على طرف الثمام؟ ولجعلوا يتساءلون فيما بينهم أي داء أصابنا فعقد ألسنتنا عن معارضة هذا الكلام الذي هو ككل كلام؟ أو لرجعوا إلى بيانهم
(١) «والهِجِّيرُ، مثال الفِسِّيقِ: الدأب والعادةُ»، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية: (٢/ ٨٥٢). (عمرو)