أوَ لست تعلم أن القرآن - في جُلِّ أمره - ما كان ينزل بهذه المعاني المختلفة جملة واحدة، بل كان يتنزل بها آحادًا مفرقة على حسب الوقائع والدواعي المتجددة، وأن هذا الانفصال الزماني بينها؛ والاختلاف الذاتي بين دواعيها، كان بطبيعته مستتبعًا لانفصال الحديث عنها على ضرب من الاستقلال والاستئناف لا يدع بينها منزعًا للتواصل والترابط؟
ألم يكن هذان السببان قوتين متظاهرتين على تفكيك وحدة الكلام وتقطيع أوصاله إذا أريد نظم طائفة من تلك الأحاديث في سلك واحد تحت اسم سورة واحدة؟
خذ بيدك بضعة متون كاملة من الحديث النبوي كان التحديث بها في أوقات مختلفة، وتناولت أغراضًا متباينة؛ أو خذ من كلام من شئت من البلغاء بضعة أحاديث كذلك. وحاول أن تجيء بها سردًا لتجعل منها حديثًا واحدًا، من غير أن تزيد بينها شيئًا أو تنقص شيئًا، ثم انظر: كيف تتناكر معانيها وتتنافر مبانيها في الأسماع والأفهام! وكيف يبدو عليها من الترقيع والتلفيق والمفارقة ما لا يبدو على القول الواحد المسترسل!
[العجيبة الثالثة الكبرى التي خرجت بهذا التأليف القرآني عن طبيعة التأليف الإنساني]
وسببٌ ثالث كان أجدر أن يزيد نظم السورة تفكيكًا ووحدتها تمزيقًا، ذلك هو الطريقة التي اتبعت في ضم نجوم القرآن بعضها إلى بعض، وفي تأليف وحدات السور من تلك النجوم، وإنها لطريقة طريفة سنريك فيها العجيبة الثالثة الكبرى التي خرجت بهذا التأليف القرآني عن طبيعة التأليف الإنساني، فتعالَ وانظر!.
انظر إلى الإنسان حين يزاول صناعة ما من صناعاته التركيبية، ألا تراه يبدأ عمله دائمًا بتعرف أجزاء المركب ومقوماته، والوقوف على عناصره ومتمماته، قبل أن يبت الحكم في تحديد موقع كل جزء منها؟ هاتان مرحلتان تتنزل الثانية منهما منزلة الصورة من مادتها، فلا جرمَ أن عكس القضية فيهما لا يكون إلا سيرًا