لقد زينت الآن لهم أحلامهم أن يتَّخذوا من (الأرض المقدسة) وطنًا قوميًّا تأوي إليه جالياتهم من أقطار الأرض، حتى إذا ما تألف منهم هنالك شعب ملتئم الشمل وطال عليهم الأمد فلم يزعجهم أحد، سعوا إلى رفع هذا العار التاريخي عنهم بإعادة ملكهم القديم في تلك البلاد.
وعلى برق هذا الأمل أخذ أفواج منهم يهاجرون إليها زرافاتٍ ووحدانًا، وينزلون بها خفافًا أو ثقالًا .. فهل استطاعوا أن يتقدموا هذه الخطوة الأولى - أو لعلها الأولى والأخيرة - مستندين إلى قوتهم الذاتية؟ كلَّا. ولكن مستندين إلى (حبل من الناس!!) فماذا تقول؟ قل: صدق الله، ومن أصدق من الله حديثًا.
أما ظنهم الذي يظنون وهو أنهم بمزاحمتهم للسكان في أرضهم وديارهم يمهدون لما يحلمون به من مزاحمتهم بعد في ملكهم وسلطانهم، فذلك ما دونه خرط القتاد، يريدون أن يبدلوا كلام الله، ولا مبدل لكلماته ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾ [النساء: ٥٣]، ﴿وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ﴾ [البروج: ٢٠].
فانظر إلى عجيب شأن النبوءات القرآنية كيف تقتحم حجب المستقبل قريبًا وبعيدًا، وتتحكم في طبيعة الحوادث توقيتًا وتأييدًا، وكيف يكون الدهر مصداقًا لها فيما قل وكثر، وفيما قرب وبعد؟
بل انظر إلى جملة ما في القرآن من النواحي الإخبارية كيف يتناول بها محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما وراء حسه وعقله من أنباء ما كان وما سيكون وما هو كائن، وكيف أنه كلما حدثنا فيها عن الماضي صدقته شواهد التاريخ، وكلما حدثنا عن المستقبل صدقته الليالي والأيام، وكلما حدثنا عن الله وملائكته وشؤون غيبه صدقته الأنبياء والكتب.
ثم اسأل نفسك بعد ذلك (أتريِنَّ هذا الرجل الأمي جاء بهذا الحديث كله من عند نفسه؟) .. تسمع منها جوابَ البديهة الذي لا تردد فيه (إنه لا بد أن يكون قد استقى هذه الأنباء من مصدر علمي وثيق، واعتمد فيها على اطلاع واسع ودرس دقيق، ولا يمكن أن تكون تلك الأنباء كلها وليدة عقله وثمرة ذكائه