وبعض الناس - كذا نقله الألوسي في مقدمة كتابه روح المعاني عن قائلٍ مجهول - يذهب إلى أن التحدي لم يقع بمطلق سورة، بل بسورة (تبلغ مبلغًا يتبين فيه رتب ذوي البلاغة) كأنَّه رأى أن هذه الرتب لا تتبين في مقدار ثلاث آيات مثلًا. وهذا وإن لم يكن قادحًا في إعجاز القرآن، ولا مبطلًا لحجته «إذ يكفي ثبوت إعجازه، ولو في قدر سورة البقرة، أو سورة يونس، أو سورة هود، أو سورة الإسراء، أو سورة الطور، وهي السور التي ورد فيها ذكر التحدي»، إلا أننا نحسب أن صاحب هذا القول حين ذهب إليه إنما ظن ظنًّا لم يستيقنه، واستبعد استبعادًا أن تكون هذه السور القصار معجزة في بيانها؛ لأنَّه لم يدرك غرابة في نظمها، فلم يفقه سر هذا الإعجاز فيها، ولكن هلَّا جعل ذلك حجة على قلة بضاعته في هذه الصناعة، ولم يجعل جهله بقيمتها حجة على عدم إعجازها. فالنَّجم تستصغر الأبصار رؤيته … والذنب للطَّرف لا للنَّجم في الصِّغَر وهلَّا فكَّر أنَّ العرب الذين قامت الحجة بعجزهم قد استوت قدرتهم أمام طواله وقصاره فلم يعارضوا هذه ولا تلك، فهذا وحده حاسم لشبهته إن كان يكفيه البرهان، فإن أراد العيان قيل له: اعمد إلى واحدة من تلك السور فحصل معانيها في نفسك، ثم جاء لها بكلام من عندك، فسوف ترى أنك بين أمرين: إما ألا تؤديها على وجهها في مثل هذا القدر وبمثل هذا النظم، وإما أن تعيد عين ألفاظها. لا ثالث. وحينذاك تتبيَّن أنَّ سرَّ الإعجاز في القصير من سور القرآن مثله في الطويل، كما أن سرَّ الإعجاز في خلق النملة مثله في خلق الفيل، عرف ذلك من عرفه، وجهله من جهله. قال ابن عطية ﵀: «ونحن تتبين لنا البراعة في أكثره ويخفى علينا وجهها في مواضع، لقصورنا عن رتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة، وقد قامت الحجة على العالم بالعرب، لانتهائهم إلى غاية الفصاحة البشرية» اه. عن الإتقان. نقول: ومن سار على الدرب وصل، فإن لم يدرك كل ما تمنى دله ما علم على ما جهل، والله المستعان.