ثم تراه حين يروي قيام إبراهيم وابنه إسماعيل ببناء البيت المعظم الذي جعله الله حرمًا آمنًا ومثابة للناس وقبلة لصلاتهم، لا ينسى أن يحكي تضرعهما إلى الله أن يجعل من ذريتهما أمة مسلمة وأن يبعث فيهم رسولًا منهم يعلمهم ويزكيهم.
ممهدًا بهذا وذاك لتقرير تلك الصلة التاريخية المتينة التي تربط هذا النبي وأمته بذينك النبيين الجليلين؛ لا صلة النبوة النسبية فحسب، بل صلة المبدأ ورابطة الوحدة الدينية أيضًا، فهم من ذريتهما، ووجودهم تحقيق لقبول دعوتهما، وملتهم ملتهما؛ وقبلتهم قبلتهما، ومثابتهم في حجهم مثابتهما.
ومقررًا في الوقت نفسه انقطاع مثل هذه النسبة المشرفة عن اليهود الذين ينتسبون بالبنوة لإبراهيم ويعقوب، وهم عن ملتهما منحرفون ولوصيتهما مخالفون. فماذا يغني النسب عن الأدب؟ ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: ١٤١].
[٤ - ذكر حاضر المسلمين وقت البعثة (١٣٥ - ١٦٢)]
واتصل ذكر الخلف بذكر السلف، وخرج الكلام من التلويح إلى التصريح، فأقبل يقرر -في جلاء- صلة هذه الأمة المسلمة بتلك الأمة الصالحة في أصول ملتها، وفي أهم فروعها، ويقص علينا ما يحاوله سفهاء الأحلام من بني إسرائيل وغيرهم لحرمان المسلمين من تلك الصلة، وذلك بدعوتهم المسلمين إلى اتباع ملتهم تارة، وبالطعن في قبلتهم تارة أخرى، ويكر على كلتا المحاولتين بالهدم والاستئصال.
وقد رأيت الحديث الآنف كيف امتزج فيه ذكر ملة إبراهيم بذكر قبلته فانظر كيف كان ذلك تأسيسًا قويًّا لما يبنى عليه هنا من ذكر ملة المسلمين وذكر قبلتهم.
قال في شأن الملة إن أهل الكتاب يدعونكم - بعد هذا البيان - أن تكونوا هودًا أو نصارى، فقولوا لهم: بل نتبع ملة إبراهيم حنيفًا، وعرفوهم جلية الأمر في هذه الملة الحنيفية، وأنها إيمان بالله وإيمان بكل ما أنزل على النبيين لا نفرق بين أحد منهم، هذه عقيدتنا بيضاء ناصعة، فأي ركنيها تنقمون منا؟ وفي أيها