فقد صوروا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رجلًا ذا خيال واسع وإحساس عميق، فهو إذًا شاعر، ثم زادوا فجعلوا وجدانه يطغى كثيرًا على حواسه حتى يخيل إليه أنه يرى ويسمع شخصًا يكلمه، وما ذاك الذي يراه ويسمعه إلا صورة أخيلته ووجداناته، فهو إذًا الجنون أو أضغاث الأحلام. على أنهم لم يطيقوا الثبات طويلًا على هذه التعليلات، فقد اضطروا أن يهجروا كلمة (الوحي النفسي) حينما بدا لهم في القرآن جانب الأخبار الماضية والمستقبلة، فقالوا: لعله تلقفها من أفواه العلماء في أسفاره للتجارة، فهو إذًا قد علمه بشر. فأي جديد ترى في هذا كله؟ أليس كله حديثًا معادًا يضاهئون به قول جهال قريش؟ وهكذا كان الإلحاد في ثوبه الجديد صورة منسوخة بل ممسوخة منه في أقدم أثوابه، وكان غذاء هذه الأفكار المتحضرة في العصر الحديث مستمدًّا من فتات الموائد التي تركتها تلك القلوب المتحجرة في عصور الجاهلية الأولى ﴿كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [البقرة: ١١٨]. وإن تعجب فعجب قولهم مع هذا كله أنه كان صادقًا أمينًا، وأنه كان معذورًا في نسبة رؤاه إلى الوحي الإلهي؛ لأن أحلامه القوية صورتها له وحيًا إلهيًّا، فما شهد إلا بما علم، وهكذا حكى الله لنا عن أسلافهم حيث يقول: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام: ٣٣] فإن كان هذا عذره في تصوير رؤاه وسماعه فما عذره في دعواه أنه لم يكن يعلم تلك الأنباء لا هو ولا قومه من قبل هذا، بينما هو قد سمعها بزعمهم من قبل؟ فليقولوا إذًا: إنه افتراه، ليتم لهم بذلك محاكاة كل الأقاويل، ولكنهم لا يريدون أن يقولوا هذه الكلمة؛ لأنهم يدَّعون الإنصاف والتعقل، ألا فقد قالوها من حيث لا يشعرون.