للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

سبحان الله! هل يمتري عاقل في أن هذا العلم البشري؛ وأن هذا الرأي الأُنُف البدائي (١) الذي يقول في الشيء: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لقلت أو فعلت، ولقدَّمت أو أخرت) لم يك أهلًا لأن يتقدم الزمان ويسبق الحوادث بعجيب هذا التدبير؟ أليس ذلك وحده آية بينة على أن هذا النظم القرآني ليس من وضع بشر، وإنما هو صنع العليم الخبير؟ بلى؛ ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ٨٢].

[[مثال على الوحدة الموضوعية في السور القرآنية = سورة البقرة]]

أمَّا إن طلبت شاهدًا من العيان على صحة ما أصلناه في هذا الفصل من نظام الوحدات في السور على كثرة أسباب اختلافها، وأما إن أحببت أن نريك نموذجًا من السور المنجمعة كيف التأمت منها سلسلة واحدة من الفكر تتلاحق فيها الفصول والحلقات، ونسق واحد من البيان تتعانق فيه الجمل والكلمات، فأي شيء أكبر شهادة وأصدق مثالًا من سورة نعرضها عليك هي أطول سور القرآن كافة، وهي أكثرها جمعًا للمعاني المختلفة، وهي أكثرها في التنزيل نجومًا، وهي أبعدها في هذا التنجيم تراخيًا.

تلك هي سورة البقرة التي جمعت بضعًا وثمانين ومائتي آية، وحوت فيما وصل إلينا من أسباب نزولها نيفًا وثمانين نجمًا، وكانت الفترات بين نجومها تسع سنين عددًا (٢).

واعلم أنه ليس من همنا الآن أن نكشف لك عن جملة الوشائج اللفظية والمعنوية التي تربط أجزاء هذه السورة الكريمة بعضها ببعض، فتلك دراسة تفصيلية لها محلها من كتب التفسير.

ذلك ولو نشاء لأريناك في القطعة الواحدة منها أسبابًا ممدودة عن أيمانها


(١) «أي مستأنفٌ استئنافًا من غير أن يكون سبق به سابق قضاءٍ وتقدير»، انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر: (١/ ٧٥).
(٢) ففيها ذكر تحويل القبلة، وذكر صيام رمضان، وذكر أول قتال وقع في الإسلام فنزل بسببه قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ﴾ [الآية: ٢١٧] وكل أولئك كان نزولهن في أوائل السنة الثانية من الهجرة. وفيها تلك الآية الخاتمة التي نزلت في آخر السنة العاشرة من الهجرة، وهي آخر آية نزلت من القرآن بإطلاق: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ [الآية: ٢٨١]، وفيها ما بين ذلك.

<<  <   >  >>