انظر إلى هذه الآيات من سورتي النحل والنمل المكيتين كيف جعلت من مقاصد القرآن الأساسية بيان ما اختلف فيه أهل الكتاب، بل جعلته أول تلك المقاصد حيث بدأت به، وثنت بالهدى والرحمة للمؤمنين.
[ردُّ القرآن على شبهة وجود معلم للرسول]
ونعود للمرة الثالثة فنقول لمن يزعم أن محمدًا كان يعلِّمه بشر: قل لنا ما اسم هذا المعلم! ومن ذا الذي رآه وسمعه؟ وماذا سمع منه؟ ومتى كان ذلك؟ وأين كان؟ فإن كلمة (البشر) تصف لنا هذا العالم الذين يمشون على الأرض مطمئنين؛ ويراهم الناس غادين ورائحين، فلا تسمع دعواها بدون تحديد وتعيين، بل يكون مثل مدعيها كمثل الذين يخلقون لله شركاء لا وجود لهم إلا في الخيال والوهم. فيقال له كما قيل لهم: ﴿قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ﴾ [الرعد: ٣٣].
بل نقول: هل وُلد هذا النبي في المريخ، أو نشأ في مكان قصي عن العالم، فلم يهبط على قومه إلا بعد أن بلغ أشده واستوى، ثم كانوا بعد ذلك لا يرونه إلا لمامًا؟ ألم يولد في حجورهم؟ ألم يكن يمشي بين أظهرهم يصبحهم ويمسيهم؟ ألم يكونوا يرونه بأعينهم في حله ورحيله؟ ﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ [المؤمنون: ٦٩].
نعم؛ إن قومه قد طوعت لهم أنفسهم أن يقولوا هذه الكلمة: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ [النحل: ١٠٣]، ولكن هل تراهم كانوا في هذه الكلمة جادِّين، وكانوا يشيرون بها إلى بشر حقيقي عرفوا له تلك المنزلة العلمية؟ كلا؛ إنهم ما كان يعنيهم أن يكونوا جادِّين محقِّين، وإنما كان كل همهم أن يدرؤوا عن أنفسهم معرِّة السكوت والإفحام، بأي صورة تتفق لهم من صور الكلام: بالصدق أو بالكذب، بالجِدِّ أو باللعب.
وما أدراك من هو ذلك البشر الذي قالوا: إنَّه يعلِّمُه؟
أتحسِب أنهم اجترأوا أن ينسبوا هذا التعليم لواحد منهم؟ كلَّا؛ فقد رأوا أنفسهم أوضح جهلًا من أن يعلموا رجلًا جاءهم بما لم يعرفوا هم ولا آباؤهم.