للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ﴾ [الأحقاف: ٩] (١).

أتُراه لو كان حين يتحامى الكذب يتحاماه دهاءً وسياسة، خشية أن يكشف الغيب قريبًا أو بعيدًا عن خلاف ما يقول، ما الذي كان يمنعه أن يتقول ما يشاء في شأن ما بعد الموت وهو لا يخشى من يراجعه فيه، ولا يهاب حكم التاريخ عليه؟ بل منعه الخلق العظيم، وتقدير المسئولية الكبرى أمام حاكم آخر أعلى من التاريخ وأهله ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ، فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ﴾ [الأعراف: ٦] وما بعدها.

[[دلالة المجموع أقوى من دلالة الحادثة الواحدة]]

واعلم أنك مهما أزحت عن نفسك راحة اليقين، وأرخيت لها عنان الشكِّ، وتركتها تفترض أسوأ الفروض في الواقعة الو احدة والحادثة الفذة من هذه السيرة المكرمة، فإنك متى وقفت منها على مجموعة صالحة لا تملك أن تدفع هذا اليقين عن نفسك إلا بعد أن تتهم وجدانك وتشك في سلامة عقلك.

فنحن قد نرى الناس يدرسون حياة الشعراء في أشعارِهم فيأخذون عن الشاعر من كلامه صورة كاملة تتمثَّل فيها عقائده وعوائده وأخلاقه ومجرى تفكيره وأسلوب معيشته، ولا يمنعهم زخرفَ الشعر وطلاؤه عن استنباط خيلته، وكشف رغوته عن صريحه؛ ذلك أن للحقيقة قوة غلابة تنفذ من حُجُب الكتمان فتقرأ بين السطور وتعرف في لحن القول، والإنسان مهما أمعن في تصنعه ومداهنته لا يخلو من فلتات في قوله وفعله تنم على طبعه إذا أحفظ أو أخرج أو احتاج أو ظفر أو خلا بمن يطمئن إليه.

ومَهما تكن عند امرئٍ من خليقةٍ … وإن خالها تخفَى على النَّاس تُعلَمِ

فما ظنُّك بهذه الحياة النبوية التي تعطيك في كل حلقة من حلقاتها مرآة


(١) قال العلماء: وكان هذا قبل أن يوحى إليه صدر سورة الفتح: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ [الفتح: ٢].

<<  <   >  >>