للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يقع لها في أجود نثرها عيوب تغض من سلاسة تركيبه، ولا يمكن معها إجادة ترتيله إلا بإدخال شيء عليه أو حذف شيء منه.

لا عجب إذًا أن يكون أدنى الألقاب إلى القرآن في خيال العرب أنه شعر؛ لأنها وجدت في توقيعه هزة لا تجد شيئًا منها إلا في الشعر.

ولا عجب أن ترجع إلى أنفسها، فتقول: ما هو بشعر؛ لأنه - كما قال الوليد (١) - ليس على أعاريض الشعر في رجزه ولا في قصيده، ثم لا عجب أن تجعل مرد هذه الحيرة أخيرًا إلى أنه ضرب من السحر؛ لأنَّه جمع بين طرفي الإطلاق والتقييد في حد وسط، فكان له من النثر جلاله وروعته، ومن الشعر جماله ومتعته.

[[الترتيب الصوتي للحروف القرآنية]]

٢ - فإذا ما اقتربت بأذنك قليلًا قليلًا، فطرقت سمعك جواهر حروفه خارجة من مخارجها الصحيحة، فاجأتك منه لذة أخرى في نظم تلك الحروف ورصفها وترتيب أوضاعها فيما بينها؛ هذا ينقر وذاك يصفر، وثالث يهمس ورابع يجهر، وآخر ينزلق عليه النفَس، وآخر يحتبس عنده النفس، وهلمَّ جرّا.

فترى الجمال اللغوي ماثلًا أمامك في مجموعة مختلفة مؤتلفة (٢) لا كركرة (٣) ولا ثرثرة، ولا رخاوة ولا معاظلة (٤)، ولا تناكر ولا تنافر.

وهكذا ترى كلامًا ليس بالحضري الفاتر، ولا بالبدوي الخشن، بل تراه وقد امتزجت فيه جزالة البادية وفخامتها برقة الحاضرة وسلاستها، وقدر فيها الأمر تقديرًا لا يبغي بعضهما على بعض، فإذا مزيج منهما كأنما هو عصارة اللغتين وسلالتهما، أو كأنما هو نقطة الاتصال بين القبائل، عندها تلتقي أذواقهم، وعليها تأتلف قلوبهم.


(١) تقدمت كلمة الوليد في ذلك.
(٢) من وقف على صفات الحروف ومخارجها ازداد بهذا المعنى علمًا، وإن شئت فارجع إلى ما كتبه الأديب الرافعي عن هذه الناحية في كتابه الموسوم (إعجاز القرآن) فقد أطال نفسه فيها وأجاد.
(٣) «الكَرْكَرة: مِنْ الإدارة والترديد»، تهذيب اللغة: (٩/ ٣٢٨).
(٤) «لم يعاظل الكلام، أي: لم يحمل بعضه على بعض، ولم يتكلم بالرجيع من القول، ولم يكرر اللفظ والمعنى»، لسان العرب: (١١/ ٤٥٧).

<<  <   >  >>