أما آية الشورى المذكورة فإنها ناظرة إلى معنى وراء ذلك ينقض فرض التعدد من أساسه، ويقرر استحالته الذاتية في نفسه بقطع النظر عن تلك الآثار. فكأننا بها تقول لنا: إن حقيقة الإله ليست من تلك الحقائق التي تقبل التعدد والاشتراك والتماثل في مفهومها، كلَّا، فإن الذي يقبل ذلك إنما هو الكمال الإضافي الناقص، أما الكمال التام المطلق الذي هو قوام معنى الإلهية، فإن حقيقته تأبى على العقل أن يقبل فيها المشابهة والاثنيْنيَّة؛ لأنَّك مهما حققت معنى الإلهية حققت تقدمًا على كل شيء وإنشاءً لكل شيء: ﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الشورى: ١١]، وحقَّقت سلطانًا على كل شيء وعلوًّا فوق كل شيء: ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الشورى: ١٢] فلو ذهبت تفترض اثنين يشتركان في هذه الصفات لتناقضتَ؛ إذ تجعل كل واحد منهما سابقًا مسبوقًا، ومُنشِئًا مُنشَأً، ومستعليًا مستعلًى عليه، أو لأحلت الكمال المطلق إلى كمال مقيد فيهما؛ إذ تجعل كل واحد منهما بالإضافة إلى صاحبه ليس سابقًا ولا مستعليًا، فأنى يكون كل منهما إلهًا، وللإله المثل الأعلى؟!
أرأيت كم أفدنا من هذه (الكاف) وجوهًا من المعاني كلها شاف كاف؟!
فاحفظ هذا المثال وتعرف به دقة الميزان الذي وضع عليه النَّظم الحكيم حرفًا حرفًا.
[[الإعجاز بالحذف!]]
(وبعد) فإن سر الإيجاز في القرآن لا يقف عند الحد الذي أشرنا إليه، من اجتناب الحشو والفضول ألبتة، وانتقاء الألفاظ الجامعة المانعة التي هي - بطبيعتها اللغوية - أتم تحديدًا للغرض، وأعظم اتِّساعًا لمعانيه المناسبة، لا، بل إنه كثيرًا ما يسلك في إيجازه سبيلًا أعز وأعجب.
فلقد تراه يعمد - بعد حذف فضول الكلام وزوائده - إلى حذف شيء من أصولِه وأركانِه التي لا يتم الكلام في العادة بدونها، ولا يستقيم المعنى إلا بها، ولقد يتناول بهذا الحذف كلماتٍ وجملًا كثيرة متلاحقة ومتفرقة في القطعة الواحدة، ثم تراه في الوقت نفسه يستثمر تلك البقية الباقية من اللفظ في تأدية المعنى كله بجلاء ووضوح، وفي طلاوة وعذوبة، حتى يخيل إليك من سهولة