للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

على هذا المنهج البليغ وضعت الآية الحكيمة قائلة: (مثله تعالى لا يكون له مثل)، تعني: أن من كانت له تلك الصفات الحسنى وذلك المثل الأعلى لا يمكن أن يكون له شبيه، ولا يتسع الوجود لاثنين من جنسه، فلا جرم جيء فيها بلفظين، كل واحد منهما يؤدي معنى المماثلة؛ ليقوم أحدهما ركنًا في الدعوى، والآخر دعامة لها وبرهانًا.

فالتشبيه المدلول عليه (بالكاف) لمَّا تصوب إليه النفي تأدَّى به أصل التوحيد المطلوب؛ ولفظ (المثل) المصرَّح به في مقام لفظ الجلالة أو ضميره نبه على برهان ذلك المطلوب.

واعلم أن البرهان الذي ترشد إليه الآية على هذا الوجه برهان طريف في إثبات وحدة الصانع، لا نعلم أحدًا من علماء الكلام حام حوله؛ فكل براهينهم في الوحدانية قائمة على إبطال التعدد بإبطال لوازمه وآثاره العملية، حسبما أرشد إليه قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: ٢٢] (١).


(١) ونحن نلخص لك هنا وجوه استدلالهم في نسق واحد، لتتبيَّن أنها كلها قائمة على أساس المعنى المستنبط من هذه الآية، وهو أن تعدد الآلهة المستجمعة لشرائط الإلهية يقتضي (إمَّا) عدم وجود شيء من المخلوقات، وذلك هو فسادها في آن الإيجاد، (وإمَّا) وجودها على وجه التفاوت والاختلاف المؤدي إلى فسادها غب الإيجاد.
ذلك أنه (لو) توجهت إرادة الإلهين إلى شيء واحد لتعذَّر عليهما إحداثه، لاستحالة صدور أثر واحد عن مؤثرين.
والقول بصدوره عن قدرة أحدهما مع استوائهما في القدرة وفي توجه القصد ترجيح بلا مرجح.
و (لو) توجهت إرادة أحدهما إلى شيء وإرادة الآخر إلى نقيضه لم يمكن إحداثهما، وإلا لاجتمع النقيضان.
وإحداث أحدهما دون الآخر يلزمه الرجحان المذكور.
و (لو) توجهت إرادة أحدهما إلى بعض الخلق والآخر إلى بعضه، إذًا لذهب كل إله بما خلق، ولكان هنا عالمان مختلفا النظام، فلا يلبث أن يطغى بعضهما على بعض حتى يتماحقا.
وكل أولئك باطل بالمشاهدة، إذ نرى العالم قد وجد غير فاسد واستمر غير فاسد، ونراه بجميع أجزائه وعلى اختلاف عناصره وأوضاعه - علوًّا وسفلًا وخيرًا وشرًّا - يؤدي وظيفة جسم واحد تتعاون أعضاؤه بوظائفها المختلفة على تحصيل غرض واحد.
وهذه الوحدة في نظام الأفعال دليل على وحدة الفاعل المنظم لها جل شأنه.

<<  <   >  >>