للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يجدوا ثغرة ينفذون منها إلى معارضته، ولا سُلَّمًا يصعدون به إلى مزاحمته، بل وجدوا أنفسهم منه أمام طود شامخ، فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا … حتى إذا استيأسوا من قدرتهم واستيقنوا عجزهم ما كان جوابهم إلا أن ركبوا متن الحتوف، واستنطقوا السيوف بدل الحروف. وتلك هي الحيلة التي يلجأ إليها كل مغلوب في الحجة والبرهان، وكل من لا يستطيع دفعًا عن نفسه بالقلم واللسان.

ومضى عصر القرآن والتحدي قائمًا ليجرب كل امرئ نفسه، وجاء العصر الذي بعده، وفي البادية وأطرافها أقوام لم تختلط أنسابُهم، ولم تنحرف ألسنتُهم، ولم تتغير سليقتُهم، وفيهم من لو استطاعوا أن يأتوا هذا الدين من أساسِه، ويثبتوا أنهم قادرون من أمر القرآن على ما عجز عنه أوائلهم: لفعلوا، ولكنهم ذلَّت أعناقهم له خاضعين، وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فُعِل بأشياعِهِم من قبل.

ثم مضت تلك القرون، وورث هذه اللغة عن أهلها الوارثون، غير أن هؤلاء الذين جاءوا من بعد، كانوا أشدَّ عجزًا وأقل طمعًا في هذا المطلب العزيز، فكانت شهادتهم على أنفسهم مضافة إلى شهادة التاريخ على أسلافهم، وكان برهان الإعجاز قائمًا أمامهم من طريقين: وجداني وبرهاني .. ولا يزال هذا دأب الناس والقرآن حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

* * *

[[القول بالصرفة]]

٣ - فإن قال لنا: نعم، قد علمتُ أنه لم يأتِ أحد بشيء في معارضة القرآن، ولكن ليس كل ما لم يفعله الناس يكون خارجًا عن حدود قدرتهم، فربما ترك الإنسان فعلًا هو من جنس أفعاله الاختيارية لعدم قيام الأسباب التي من شأنها أن تبعث عليه، أو لأن صارفًا إلهيًّا ثبط همته وصرف إرادته عنه مع توافر الأسباب الداعية إليه، أو لأنَّ عارضًا فجائيًّا عطَّل آلاته وعاق قدرته عن إحداث ذلك الفعل بعد توجه إرادته نحوه، فعلى الفرضين الأولين يكون عدم معارضة القرآن قلة اكتراث بشأنه لا عجزًا عن الإتيان بمثله، وعلى الفرض الأخير يكون تركه عجزًا عنه حقًّا، لكن ليس لمانع فيه من جهة علو طبقته عن مستوى القدرة

<<  <   >  >>