للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مسلك (١) المعنى في لفظه أن لفظه أوسع منه قليلًا.

فإذا ما طلبتَ سر ذلك رأيته قد أودع معنى الكلمات أو الجمل المطوية في كلمة هنا وحرف هناك، ثم أدار الأسلوب إدارة عجيبة وأمر عليها جَنْدَرة (٢) البيان بيد صَنَاع، فأحكم بها خلقه وسواه، ثم نفخ فيه من روحه، فإذا هو مصقول أملس، وإذا هو نير مشرق، لا تشعر النفس بما كان فيه من حذف وطي، ولا بما صار إليه من استغناء واكتفاء، إلا بعد تأمل وفحص دقيق.

لا نكرانَ أنَّ العرب كانت تعرف شيئًا من الحذف في كلامها، وترى ذلك من الفضيلة البيانية متى قامت الدلائل اللائحة على ذلك المحذوف، ولو كان من أجزاء الجملة ومقوماتها. فإذا قيل للعربي: أين أخوك؟ قال: في الدار. وإذا قيل له: من في الدار؟ قال: أخي. ولو قال: أخي في الدار، لعُدَّ ذلك منه ضربًا من اللغو والحشو.

لكن الشأوَ الذي بلغه القرآن في هذا الباب - كغيره من أبواب البلاغة - ليس في متناول الألسنة والأقلام، ولا في متناول الأماني والأحلام.

[[مثال على إعجاز الحذف]]

خذ لذلك مثلًا قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [يونس: ١١].

الآية مسُوقَة في شأن منكري البعث الذين قال لهم النبي: إني رسول الله إليكم، وإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقالوا متهكمين: ﴿اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال: ٣٢]،


(١) هذه كلمة تمثيلية أردنا بها أن نصور هذا الأثر البياني في مثال من الصناعات اليدوية، ذلك أنك ترى الخياط الماهر ينتفع باليسير من البزِّ فيجعل منه حلة حسنة، مقدرة على الجسم تقديرًا، بل إنها لسهولة مسلك الأعضاء فيها تحسبها ضافية، بينما غيره لا يحسن الانتفاع بهذا القدر ولا بأكثر منه، فيخرجه لباسًا ضيقًا حرجًا، ذلك مثل صناعة الإيجاز القرآني بالقياس إلى كلام الناس.
(٢) الجندرة: آلة خشبية تتخذ لصقل الملابس وبسطها، «وجَنْدَرَ الكِتَاب: أَمَرَّ القَلَم على مَا دَرَسَ مِنهُ لِيَتَبيَّنَ»، تاج العروس من جواهر القاموس: (١٠/ ٣٨٧). (عمرو)

<<  <   >  >>