للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وتراهنوا على تكذيبه، على أن القرآن لم يكتف بهذين الوعدين، بل عززهما بثالث، حين يقول: ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ﴾ إشارة إلى أن اليوم الذي يكون فيه النصر هناك للروم على الفرس سيقع فيه ها هنا نصر للمسلمين على المشركين، وإذا كان كل واحد من النصرين في حد ذاته مستبعدًا عند الناس أشد الاستبعاد فكيف الظن بوقوعهما مقترنين في يوم؟ لذلك أكده أعظم التأكيد بقوله: ﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: ٦].

ولقد صدق الله وعده، فتمَّت للروم الغلبة على الفرس، بإجماع المؤرخين في أقل من تسع سنين (١)، وكان يومُ نصرها هو اليوم الذي وقع فيه النصر للمسلمين على المشركين في غزوة بدر الكبرى، كما رواه الترمذي عن أبي سعيد، ورواه الطبري عن ابن عباس وغيره (٢).

[ما يتصل بمستقبل الحِزبَين]

(وهذه أمثلة من النوع الثالث): استعصى أهل مكة على النبي فدعا عليهم بسنين كسني يوسف، فانظر ما قاله القرآن في جواب هذا الدعاء: ﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ، يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الدخان: ١٠] وما بعدها، فماذا جرى؟ أصابهم القحط حتى أكلوا العظام، وحتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد. رواه البخاري عن ابن مسعود.

ثم انظر قوله بعد ذلك: ﴿إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ، يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ﴾ [الدخان: ١٥ - ١٦] (٣)، تَرَ فيها ثلاث نبوءات أخرى:


(١) رب قائل يقول: هلا حدَّد القرآن عدد السنين بلفظ أصرح من لفظ البضع المتراوح بين الثلاث والتسع، أليس الله بأعلم بيوم النصر وساعته، بله سنته؟ فنقول: بلى، ولكن الناس في اصطلاحهم الحسابي لا يجرون على طريقة واحدة، فمنهم من يحسب بالشمس، ومنهم من يحسب بالقمر، ومنهم من يكمل الكسور، ومنهم من يلغيها، فكان مقتضى الحكمة التعبير باللفظ الصادق على كل تقدير ليكون أقطع لكل شبهة، وأبعد عن كل جدل ومكابرة، ثم إنه ربما تراخى الأمر بين بشائر النصر ووقائعه الفاصلة فيقع اختلاف الحسابين في تعيين الوقت الذي يضاف إليه النصر والغلبة، ولذا حسن التعبير بلفظ (في بضع) دون أن يقال: بعد بضع.
(٢) رواه الترمذي: (٣١٩٣)، والطبراني: (٢١/ ١٦).
(٣) رواه البخاري: (٤٨٢١)، ومسلم: (٢٧٩٨)، ولفظه: عن مسروق، قال: (جاء إلى عبد الله رجل فقال: تركت في المسجد رجلًا يفسر القرآن برأيه يفسر هذه الآية: ﴿يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ﴾ [الدخان: ١٠]، قال: يأتي الناس يوم القيامة دخان، فيأخذ بأنفاسهم حتى يأخذهم منه كهيئة الزكام، فقال عبد الله: من علم علمًا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من فقه الرجل أن يقول لما لا علم له به: الله أعلم، إنما كان هذا، أن قريشًا لما استعصت على النبي ، «دعا عليهم بسنين كسني يوسف»، فأصابهم قحط وجهد، حتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، وحتى أكلوا العظام، فأتى النبي رجل فقال: يا رسول الله استغفر الله لمضر، فإنهم قد هلكوا، فقال: «لمضر! إنك لجريء» قال: فدعا الله لهم، فأنزل الله ﷿: ﴿إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ﴾ [الدخان: ١٥]، قال: فمطروا، فلما أصابتهم الرفاهية، قال: عادوا إلى ما كانوا عليه، قال: فأنزل الله ﷿: ﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الدخان: ١٠ - ١١]، ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ﴾ [الدخان: ١٦] قال: يعني يوم بدر).

<<  <   >  >>