للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[تفرُّد أسلوب القرآن، ودلالته على المصدرية]

بل نقول: لو كان الأسلوب القرآني صورة لتلك الفطرة المحمدية لوجب على قياس ما أصلته من المقدمات أن ينطبع من هذه الصورة على سائر الكلام المحمدي ما انطبع منها على أسلوب القرآن؛ لأنَّ الفطرة الواحدة لا تكون فطرتين، والنفس الواحدة لا تكون نفسين (١) ونحن نرى الأسلوب القرآني فنراه


(١) هنا موضع سؤال، فكأننا بقائل يقول لنا: إنه ليس بدعًا من الأمر أن يكون للرجل البليغ ضربان من الكلام:
أحدهما: يجيئه على البديهة فيرسله إرسالًا غير معنيٍّ بتهذيبه وتحبيره.
والآخر: يتأتى له بالروية ويحتفل به احتفالًا يجعل بينه وبين الضرب الأول بعدًا شاسعًا يخيَّل للسامع أنه قول شخص آخر مع صدور القولين عن قائل واحد.
فهلا طبقتم هذا المثل على الكلام المحمدي فجعلتم حديثه من الضرب الأول وقرآنه من الضرب الثاني؟
والجواب: أن توزيع هذين الضربين على الحديث والقرآن توزيع لا يتفق والواقع في شيء؛ فقد كان أكثر الوحي القرآني يجيء إلى النبي في شأنٍ لم يسبق له عهد به ولم يتقدم منه تفكير فيه، بل كان يفاجئه من فوره على غير توقع وانتظار؛ جوابًا لسؤال سائل، أو فتيا في حادثة نزلت، أو قصصًا عن أمة مضت، أو ما إلى ذلك، وقليلًا ما كان يجيئه بعد تشوف وتلبث تمكن فيه الروية، كما في مسألة الإفك ومسألة تحويل القبلة، وقد رأينا أسلوبَه في كلتا الحالين، فإذا نسقُه هو نسقُه ونظامُه هو نظامُه.
وكذلك نقول: إنَّ كلامه النبوي كانت تختلف عليه هذه الظروف ويتحد فيها أسلوبه، فقد كان يتكلم أحيانًا بعد تفكير طويل ورويَّة وتشاور مع أصحابه كما رأينا من حديثه في مسألة الإفك، وكما نرى من حديثه بعد التشاور في شؤون الحرب والصلح ونحوها، وأحيانًا بعد تلبُّث يسير؛ انتظارًا للوحي كما في قصة الرجل الذي جاء في الجعرانة سنة ثمان فسأل عن العمرة وهو متضمخ بالطيب وعليه جبة، فنظر إليه النبي ساعة، ثم سكت، حتى جاءه الوحي، فلما سري عنه قال: (أين السائل عن العمرة؟) فجيء به، فقال : «أمَّا الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك» رواه الشيخان*.
وأخرى كان يتكلم على البديهة فيما لا يشكل عليه أمره مما سبقت به قضية العقل أو الدين، وهو في كل ذلك يجري كما ترى على نمط واحد لا تستطيع أن تميز في أسلوبه بين ما كان معناه مدبرًا بالرأي وما كان معناه معلمًا بالوحي، ولا بين ما يرسله إرسالًا في حديثه مع أهله وأصحابه وما يحتفل به احتفالًا في الجموع المحشودة والأيام المشهودة.
فتبين بطلان ما اعتمده السائل من تفرقة بين القرآن والحديث على هذا النحو.
بل إننا لو ذهبنا إلى أبعد من ذلك وافترضنا جدلًا صحة هذا التقسيم لما صلح أساسًا يقوم عليه بنيان الشبهة؛ لأنَّ انقسام الكلام إلى المرسل على البديهة والمزور بالروية ما كان ليتفاوت به منهج الكلام - عند العرب الخلَّص - هذا التفاوت البعيد الذي يظن فيه أنه قول قائلين.
وإنما ظهر هذا التفاوت منذ انقرض أهل السليقة العربية ونبتت نابتة المولدين الذين أخذوا هذه اللغة من غير أمهاتهم، فكانت لغتهم التي بها يتكلمون غير اللغة التي بها يكتبون، وهكذا أمكن أن يكون لكل منهم أسلوبان متباينان، ينزل بأحدهما إلى العاميَّة الطبيعيَّة ويصعد بالآخر إلى العربية المكسوبة، أمَّا العربي القحَّ فإنَّه في عامَّة أمره ما كان يزيده التفكير والتقدير والروية إلا استيعابًا لأطراف الحديث واستكمالًا لمقاصده، ولم يكن ذلك ليخرجه عن أسلوبه وطريقته ولغته الخاصة التي يألفها طبعه وتفيض بها سجيته وهي اللغة التي يحتذيها أهل الفن منا بعد محاولة ومعالجة.
ولئن كان فيهم قليل ممن يدير القول على غير سجيته ويتعمَّل له ما ليس من عادته في كلامه، لقد كان هذا التكلف غير مخرج له عن حدود مذهبه جملة، بل كان يترك في غضون حديثه ما ينم عن روحه ومشربه، على أنَّ الكلام بعد تلك المعاناة لم يكن ليزداد فصاحة وحسنًا، بل كان ينزل في هذا الباب بقدر ما يحسب الحاسب أنه يصعد فيه.
ومن هنا كانت العرب تتمادح بالأمر يجيء طبعًا لا تكلفًا، ولم يكن النبي في شيء ما من المتكلِّفين، بل كان أشدَّ النَّاس كراهية للتكلف في الكلام وغيره، وكان يقول: «هلك المتنطعون» رواه مسلم وأبو داود، والتنطع في الكلام: التعمق فيه والتفاصح.
وانظر ذمَّهُ الرجل الهذلي حين خاصم في دية الجنين فقال: (يا رسول الله كيف أغرم دية من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل؟ فمثل ذلك يطلُّ)، أي: يهدر دمه، فقال رسول الله : «إنما هذا من إخوان الكهَّان»، من أجل سجعه الذي سجع، رواه الشيخان وغيرهما، وفي رواية: «أسجعٌ كسجع الأعراب؟»، وفي أخرى: «أسجع الجاهلية وكهانتها؟»، فذم هذا النوع من السجع وهو ما كان كسجع الكهان مصنوعًا غير مطبوع، وكان المعنى فيه تابعًا للفظ، وليس اللفظ تابعًا للمعنى *.
* الأحاديث:
١ - عن صفوان بن يعلى بن أمية، أن يعلى كان يقول لعمر بن الخطاب : ليتني أرى نبي الله حين ينزل عليه، فلما كان النبي بالجُعرَانة، وعلى النبي ثوب قد أظل به عليه، معه ناس من أصحابه، فيهم عمر، إذ جاءه رجل عليه جبة صوف، متضمخ بطيب، فقال: يا رسول الله، كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمَّخ بطيب؟ فنظر إليه النبي ساعة، ثم سكت، فجاءه الوحي، فأشار عمر بيده إلى يعلى بن أمية: تعال، فجاء يعلى، فأدخل رأسه، فإذا النبي محمر الوجه، يغط ساعة، ثم سرِّيَ عنه، فقال: «أين الذي سألني عن العمرة آنفًا؟» فالتمس الرجل، فجيء به، فقال النبي : «أمَّا الطيب الذي بك، فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبَّة فانزعها، ثم اصنع في عمرتك، ما تصنع في حجك»، رواه البخاري: (٤٩٨٥)، ومسلم: (١١٨٠).
٢ - عن عبد الله، قال: قال رسول الله : «هلك المتنطِّعُون» قالها ثلاثًا، رواه مسلم: (٢٦٧٠)، وأبو داود: (٤٦٠٨).
٣ - عن أبي هريرة، قال: (اقتتلت امرأتان من هُذَيل، فرمَت إحداهما الأخرى بحجرٍ، فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله ، فقضى رسول الله أنَّ دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقِلتها، وورثها ولدها ومن معهم، فقال حمل بن النابغة الهذلي: يا رسول الله، كيف أغرم من لا شربِ ولا أكلَ، ولا نطقَ ولا استهلَّ، فمثل ذلك يطلَّ، فقال رسول الله : «إنما هذا من إخوان الكهَّان»، من أجل سجعه الذي سجع)، رواه البخاري: (٥٧٥٨)، ومسلم: (١٦٨١)، وفي رواية لمسلم: (١٦٨٢): «أسجع كسجع الأعراب؟».

<<  <   >  >>