للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بها حديث الحج، والتي قسمت الناس من حيث آمالهم ومطامحهم إلى فريقين: فريق يطلب خير الدنيا ولا يفكر في أمر الآخرة، وفريق لا تنسيه دنياه مصالح أخراه (٢٠٠ - ٢٠٢) فجاءت الموعظة العامة تقسم الناس من حيث ما فيهم من خلق الأثرة أو الإيثار إلى فئتين: فئة لا تبالي أن تضحي في سبيل أهوائها بحياة العباد، وعمران البلاد، وفئة على العكس من ذلك لا تضن أن تضحي بنفسها في سبيل مرضاة الله (٢٠٤ - ٢٠٧).

وتخلص الآيات الحكيمة من هذا التقسيم، إلى توجيه النصح للمؤمنين بأن يخلصوا نفوسهم من شوائب الهوى، ويستسلموا بكليتهم لأوامر الله، دون تفريق بين بعضها وبعض؛ محذِّرة إياهم من الزلل عنها بعد أن هدوا إليها ووقفوا عليها، معزِّية لهم عما قد يصيبهم من البأساء والضراء في سبيل إقامتها، ضاربة لهم المثل في ذلك بسنة السلف الصالح من الأمم السابقة (٢٠٨ - ٢١٤).

هنا تمت الاسترواحة بالموعظة العامة.

(و) ستكون الحلقة التالية في تفصيل الخصلة الثانية من الخصال العملية التي أُجملت في آية البر، وهي الوفاء بالعهود والعقود؛ وستختار من بين هذه العقود أحقها بالعناية والرعاية: عقدة الزواج وما يدور حول محورها من شؤون الأسرة. أليست الأسرة هي المجال الأول للتدريب على حسن العشرة، وعلى التنزه من رذيلة الأنانية والأثرة؟ ثم أليست الأمور متى استقامت في هذا المجتمع الصغير، استقامت بالتدريج في المجتمع الكبير، ثم في المجتمع الأكبر؟

[تفصيل الشؤون الأسرية المتشابكة: (الآيات من ٢١٥ إلى ٢٣٧)]

ترى كيف سيكون الانتقال إلى هذه الحلقة الثانية؟ هل يصعد القرآن بنا توًّا إلى تفصيل هذه الشؤون المنزلية المشتبكة المتشعبة؟ كلَّا إنَّ هذا البيان التربوي الحكيم لن يهجم بنا عليها دفعة، ولكنه سيتلطف في الوصول بنا إليها على معراج من الأسئلة والأجوبة، تتصل أوائلها بالأحكام الماضية: الإنفاق والجهاد (٢١٥ - ٢١٨) وتتصل أواخرها (١) بالأحكام التالية: مخالطة اليتامى، وشرائط


(١) ارجع البصر كرتين إلى هذا النظام الهندسي في البيان .. ثم سل نفسك هل كان في الإمكان أن يأتلف عقد نظامه لو لم تقع الأحداث التي اتخذت منها مادته، أو لو وقع بعضها وتخلف بعضها، أو لو وقعت كلها ولم تنبعث في روع القوم باعثة السؤال عن أحكامها .. ؟ لقد كان القدر يسير إذًا في ركاب هذا التنظيم، فأثار مادة حوادثه، وبعث حاجات النفوس إلى طلب بيانها .. ولم يبق إلا أن تقول معي: آمنت أن الذي بيده تصريف الزمان، هو هو الذي بيده تنزيل القرآن .. ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين.

<<  <   >  >>