عن القصد، وكم ينأى به عن أروع نواحي الجمال في النظم؛ وهل يكون مثله في ذلك إلا كمثل امرئ عرضت عليه حلة موشية دقيقة الوشي ليتأمل نقوشها فجعل ينظر فيها خيطًا خيطًا ورقعة رقعة، لا يجاوز ببصره موضع كفه، فلما رآها يتجاور فيها الخيط الأبيض والخيط الأسود وخيوط أخر مختلف ألوانها اختلافًا قريبًا أو بعيدًا لم يجد فيها من حسن الجوار بين اللون واللون ما يروقه ويونقه.
ولكنه لو مدَّ بصره أبعد من ذلك إلى طرائف من نقوشها لرأى من حسن التشاكل بين الجملة والجملة، ما لم يره بين الواحد والواحد، ولتبين له من موقع كل لون في مجموعته بإزاء كل لون في المجموعة الأخرى ما لم يتبين له من قبل، حتى إذا ألقى على الحلة كلها نظرة جامعة تنتظم أطرافها وأوساطها بدا له من تناسق أشكالها ودقة صنعتها ما هو أبهى وأبهر، فكذلك ينبغي أن يصنع الناظر في تدبره لنظم السورة من سور القرآن.
[[مهمات عن البحث في النسق القرآني]]
(وكلمة أخرى) تمسُّ إليها حاجة الباحث في النسق إذا أقبل على تلك المناسبات الموضعية بين أجزاء السورة: وهي أن يعلم أن الصلة بين الجزء والجزء لا تعني اتحادهما أو تماثلهما أو تداخلهما أو ما إلى ذلك من الصلات الجنسية وحسب، كما ظنَّه بعض الباحثين في المناسبات، فجعل فريق منهم يذهب في محاولة هذا النوع من الاتصال مذاهب من التكلف والتعسف، وفريق آخر متى لم يجد هذه الصلة من وجه قريب أسرع إلى القول بأن في الموضع (١) اقتضابًا محضًا؛ جريًا على عادة العرب في الاقتضاب.
(١) بل زعم بعضهم أن الاقتضاب هو الأصل في القرآن كله، نقل السيوطي في الإتقان في بحث المناسبة بين الآيات والسور؛ عن أبي العلاء محمد بن غانم: «أن القرآن إنما وقع على الاقتضاب الذي هو طريقة العرب من الانتقال إلى غير ملائم»، وكذلك نقل عن عز الدين بن عبد السلام أنَّ النظر في مناسبة الآي لا يحسُن إلا في القضية التي نزلت على سبب واحد، أمَّا إذا اختلفت الأسباب فالربط بينها ضرب من التكلف؛ لأنَّ القرآن نزل في نيِّفٍ وعشرين سنة في أحكام مختلفة لأسباب مختلفة، وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض» ا. هـ. وقد خالفهما الأئمة ووهموهما.