ولكنك إذا رجعت بنفسك إلى أجزاء المثلين سترى معنا أن المثل الأول ينطبق تمام الانطباق على الأوصاف التي ذكرها الله للكافرين، وأن الذي ينطبق على صفات المنافقين إنما هو المثل الثاني وحده، فهؤلاء القوم الذين ﴿ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [البقرة: ١٧ - ١٨]، أليسوا هم أولئك القوم الذين ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ [البقرة: ٧]، وهذه الظلمات الثابتة المستقرة التي ليس فيها بصيص من نور وليس فيها تقلب ولا تذبذب، هل ترى فيها تصويرًا لألوان النفاق ووجوهه المختلفة باختلاف الأحوال؟ إنك لا تجد هذه الصورة إلا في المثل الثاني حيث يتعاقب فيه الظلام والنور، والوقوف والمسير. وكذلك ترى في المثل الثاني قومًا لهم أسماع وأبصار لم يذهب الله بها ولو شاء لذهب، وهذا مناسب لقوله في المنافقين: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ [البقرة: ١٠] فوصفهم بالمرض ولم يصفهم بالختم الكلي على القلوب والحواس. نعم، يمكن تقرير كلام المفسرين على وجه صحيح إذا ضممنا إليه ضميمة، ذلك بأن نقول: إن المثل الأول يصور حال المنافقين في بواطنهم، وهو الأمر الذي يشاركون فيه سائر الكفار، والمثل الثاني يصور حالهم في ظواهرهم، وهو الأمر الذي يتقلب عندهم بتقلب الدواعي؛ لأن تقلبهم إنما هو في الظاهر لا الباطن. غير أن هذه الدعوى أيضًا محل نظر، إذ ما يدرينا، لعل نوع الكفر الذي يبطنه المنافق نوع خاص يتقلب فيه قلبه بالشك والتردد، وأن هذا الاضطراب الذي نشاهده على حركاته الظاهرة في أقواله وأعماله إنما هو صورة الاضطراب النفسي الذي يحس به هو في دخيلته بخلاف النوع الأول، وهو كفر المجاهرين، فهو طبيعة واحدة مصممة، حسبما تشهد به وحدة آثاره.