بل إنَّ الدليل نفسه جامع بين عمق المقدمات اليقينية، ووضوح المقدمات المسلمة، ودقة التصوير لما يعقب التنازع من (الفساد) الرهيب، فهو برهانيٌّ خَطَابيٌّ عاطفيٌّ معًا.
[٤ - الجمع بين البيان والإجمال.]
وهذه عجيبة أخرى تجدها في القرآن ولا تجدها فيما سواه، تقرأ القطعة من القرآن فتجد في ألفاظها من الشفوف، والملاسة والإحكام والخلو من كل غريب عن الغرض ما يتسابق به مغزاها إلى نفسها دون كد خاطر ولا استعادة حديث، كأنك لا تسمع كلامًا ولغات، بل ترى صورًا وحقائق ماثلة، وهكذا يخيل إليك أنك قد أحطت به خُبرًا، ووقفت على معناه محدودًا؛ هذا ولو رجعت إليه كرة أخرى لرأيتك منه بإزاء معنى جديد غير الذي سبق إلى فهمك أول مرة.
[٥ - الوحدة الموضوعية.]
لا يُستراب أن القرآن نزل مفرقًا حسب الوقائع والدواعي، وأن ترتيبه إنما وقع بوحي من الله، ولا شك أن القرآن أكثره يتناول شؤون القول، ويتنقل بين تلك الشؤون من وصف، إلى قصص، إلى تشريع، إلى جدل إلى ضروب شتى .. ومع ذلك، وكون هذا الانفصال الزماني، والاختلاف الذاتي يستتبعان تفكيك الكلام، وتقطيع أوصاله؛ إلا أنا نجد السورة من القرآن كالشيء الواحد لا انفصام بين قطعة وأخرى، ولا بين مفتتح وختام.
إنه لا يجرؤ في قرارة الغيب على وضع هذه الخطة المفصلة المصممة إلا أحد اثنين: جاهل جاهل في حضيض الجهل؛ أو عالم عالم فوق أطوار العقل، لا ثالث.
إنك لتقرأ السورة الطويلة المنجمة يحسبها الجاهل أضغاثًا من المعاني حشيت حشوًا، وأوزاعًا من المباني جمعت عفوًا؛ فإذا هي - لو تدبرت - بنية متماسكة قد بنيت من المقاصد الكلية على أسس وأصول، وأقيم على كل أصل منها شعب وفصول، وامتد من كل شعبة منها فروع تقصر أو تطول؛ فلا تزال