القديم قبل أن يصيبهم العجز فجاءوا بشيء منه في محاذاته، ولكنهم لم يجيئوا فيه بقديم ولا جديد، وكان القرآن نفسه هو مثار عجبهم وإعجابهم، حتى إنهم كانوا يخرون سُجَّدًا لسماعه من قبل أن تمضي مهلة يوازنون فيها بينه وبين كلامهم، بل إن منهم من كان يغلبه هذا الشعور فيفيض على لسانه اعترافًا صحيحًا:(ما هذا بقول بشر).
* * *
[[القرآن ولغة العرب]]
٤ - فإن قال: قد تبينتُ الآن أنَّ سكوتَ النَّاس عن معارضة القرآن كان عجزًا، وأنَّهم وجدوا في طبيعة القرآن سرًّا من أسرار الإعجاز يسمو به عن قدرتهم، ولكني لست أفهم أن ناحيته اللغوية يمكن أن تكون من مظانِّ هذ السر؛ لأني أقرأ القرآن فلا أجده يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية: فمن حروفهم رُكِّبَتْ كلماتُه، ومن كلماتهم أُلفت جمله وآياته، وعلى مناهجهم في التأليف جاء تأليفه، فأي جديد في مفردات القرآن لم تعرفه العرب من موادها وأبنيتها؟ وأي جديدٍ في تركيب القرآن لم تعرفه العرب من طرائقها ولم تأخذ به في مذاهبها، حتى نقول: إنَّه قد جاءهم بما فوق طاقتهم اللغوية؟
قلنا له: أما أن القرآن الكريم لم يخرج في لغته عن سنن العرب في كلامهم إفرادًا وتركيبًا فذلك في جملته حق لا ريب فيه، وبذلك كان أدخل في الإعجاز، وأوضح في قطع الأعذار ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ﴾ [فصلت: ٤٤].
وأمَّا بعد، فهل ذهب عنك أن مثل صنعة البيان كمثل صنعة البنيان، فالمهندسون البنَّاءون لا يخلقون مادة بناء لم تكن في الأرض، ولا يخرجون في صنعتهم عن قواعدها العامَّة، ولا يعدو ما يصنعونه أن يكون جدرانًا مرفوعة، وسُقُفًا موضوعَة، وأبوابًا مشرَعة، ولكنهم تتفاضل صناعاتهم وراء ذلك في اختيار أمتن المواد وأبقاها على الدهر، وأكنها للناس من الحر والقر، وفي تعميق الأساس وتطويل البنيان، وتخفيف المحمول منها على حامله، والانتفاع بالمساحة اليسيرة في المرافق الكثيرة، وترتيب الحجرات والأبهاء، بحيث يتخللها الضوء