للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

(ز - ح)

[«البيان» و «الإجمال»]

وهذه عجيبةٌ أخرى تجدها في القرآن ولا تجدها فيما سواه، ذلك أنَّ الناس إذا عمدوا إلى تحديد أغراضهم لم تتسع لتأويل، وإذا أجملوها ذهبوا إلى الإبهام أو الإلباس، أو إلى اللغو الذي لا يفيد، ولا يكاد يجتمع لهم هذان الطرفان في كلام واحد.

وتقرأ القطعة من القرآن فتجد في ألفاظها من الشفوف، والملاسة والإحكام والخلو من كل غريب عن الغرض ما يتسابق به مغزاها إلى نفسها دون كدِّ خاطر ولا استعادة حديث.

كأنَّك لا تسمع كلامًا ولغات بل ترى صورًا وحقائق ماثلة، وهكذا يخيَّل إليك أنك قد أحطت به خُبرًا ووقفت على معناه محدودًا؛ هذا ولو رجعت إليه كرة أخرى لرأيتك منه بإزاء معنى جديد غير الذي سبق إلى فهمك أول مرة، وكذلك .. حتى ترى للجملة الواحدة أو الكلمة الواحدة (١) وجوهًا عدة كلها


(١) هذا مثلٌ صغير: اقرأ قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [سورة البقرة: الآية ٣١٢]. وانظر هل ترى كلامًا أبين من هذا في عقول الناس، ثم انظر كم في هذه الكلمة من مرونة، فإنك لو قلتَ في معناها: إنه سبحانه يرزق من يشاء بغير محاسب يحاسبه، ولا سائل يسأله لماذا يبسط الرزق لهؤلاء ويقدره على هؤلاء، أصبتَ.
ولو قلت: إنه يرزق بغير تقتير ولا محاسبة لنفسه عند الإنفاقٍ خوف النَّفاد، أصبت.
ولو قلت: إنه يرزق من يشاء من حيث لا ينتظر، ولا يحتسب، أصبت.
ولو قلت: إنه يرزقه بغير معاتبة ومناقشة له على عمله، أصبت.
ولو قلت: يرزقه رزقًا كثيرًا لا يدخل تحت حصر وحساب، أصبت.
فعلى الأوَّل: يكون الكلام تقريرًا لقاعدة الأرزاق في الدنيا، وأن نظامها لا يجري على حسب ما عند المرزوق من استحقاق بعلمه أو عمله، بل تجري وفقًا لمشيئته وحكمته سبحانه في الابتلاء، وفي ذلك ما فيه من التسلية لفقراء المؤمنين، ومن الهضم لنفوس المغرورين من المترفين.
وعلى الثاني: يكون تنبيهًا على سعة خزائنه وبسطة يده جل شأنه.
وعلى الثالث: يكون تلويحًا للمؤمنين بما سيفتح الله لهم من أبواب النصر والظفر حتى يبدِّل عسرهم يسرًا وفقرهم غنى من حيث لا يظنون.
وعلى الرابع والخامس: يكون وعدًا للصالحين إمَّا بدخولهم الجنة بغير حساب، وإمَّا بمضاعفة أجورهم أضعافًا كثيرة لا يحصرها العد.
ومن وقف على علم التأويل واطلع على معترك أفهام العلماء في آية رأى من ذلك العجب العاجب.

<<  <   >  >>