للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

صحيح أو محتمل للصحة، كأنما هي فصٌّ من الماس يعطيك كل ضلع منه شعاعًا، فإذا نظرت إلى أضلاعه جملة بهرتك بألوان الطيف كلها، فلا تدري ماذا تأخذ عينك وماذا تدع. ولعلك لو وكلت النظر فيها إلى غيرك رأى منها أكثر مما رأيت.

وهكذا تجد كتابًا مفتوحًا مع الزمان يأخذ كل منه ما يسر له؛ بل ترى محيطًا مترامي الأطراف لا تحده عقول الأفراد ولا الأجيال.

ألم تر كيف وَسِعَ الفرق الإسلامية على اختلاف منازعها في الأصول والفروع؟ وكيف وسع الآراء العلمية على اختلاف وسائلها في القديم والحديث؟ وهو على ليِّنه للعقول والأفهام صلب متين، لا يتناقض ولا يتبدل، يحتج به كل فريق لرأيه، ويدعيه لنفسه، وهو في سموه فوق الجميع يطل على معاركهم حوله، وكأن لسان حاله يقول لهؤلاء وهؤلاء: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا﴾ [الإسراء: ٨٤] (١).


(١) يقول د. ياسر المطرفي ما ملخصه: «بين الله طبيعة علاقة الإنسان بالقرآن، وهي علاقة التدبر، يقول الله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: ٢٩]، فهو هنا يبين أن وظيفة تنزيل القرآن على البشر، هو تدبر آياته.
والتدبر مرحلة بعد مرحلة الفهم، وبالتالي فهو مطالب بالفهم أولًا ثم بالتدبر ثانيًا.
لكن هذه الوظيفة وهي التدبر والسعي نحو الوصول إلى هداياته هي وظيفة (ابتلائية)، ففي سبيل الوصول إلى مقصود (الهداية) ثمة مقصود آخر وهو (الابتلاء)، فبعد أن ذكر الله سبحانه تنزيله للقرآن بالحق في قوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ [المائدة: ٤٨] = ذكر أنه مع تنزيله لهذا الكتاب لم يشأ أن يجعل الناس أمة واحدة، بل سيختلفون وهذا من الابتلاء لهم، فقال في نفس الآية: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾ [المائدة: ٤٨].
إنَّ وظيفة تأويل النص هي وظيفة (ابتلائية)، وتحدٍ كبير يخوضه القارئ أمام النص، ويزداد هذا التحدي من خلال معرفة تركيبة الإنسان الجدلية، التي يذكرها الله بعد ذكره لبيان القرآن، فيقول: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾ [الكهف: ٥٤].
فإن الله سبحانه مع وصفه القرآن بأنه مفصل ومبين يذكر أنه مع هذا التفصيل فإن من طبيعة الإنسان (وهو القارئ) الجدل، فمع وضوح بيان النص وتفصيله، إلَّا أنَّ قارئه جدلي في طبعه، وهذه الطبيعة ستؤثر دونما شكٍّ في طبيعة تعاطيه مع النص.
بل إنَّ الطبيعة الجدلية ربما قادته للجدل بدون برهان وعلم، ممَّا يعني أن القضية ترجع إلى عامل نفسي هو تكبر الإنسان أحيانًا أمام الحقيقة البينة الواضحة، يقول الله سبحانه في ذلك: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ﴾ [غافر: ٥٦].
إنَّ التحدي الأكبر أمام النص القرآني ليس من النص ذاته وإنَّما من قارئه.
وكما يقول ابن تيمية: «وكلام الله ورسوله وكلام العلماء مملوءٌ بما يَفْهَمُ الناس منه معنى فاسدًا؛ فكان العيب في فهم الفاهم لا في كلام المتكلم الذي يُخاطب جِنْسَ الناس»، [تلخيص كتاب الاستغاثة، (٢/ ٦١٥)].
ولذلك؛ فإنَّ الله سبحانه لَمَّا ذكر معوقات تدبر القرآن حصرهما في أمرين: أحدهما يعود على النص والآخر راجع إلى القارئ.
يقول الله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ٨٢].
وفي الآية الأخرى يقول سبحانه: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: ٢٤].
ففي الآية الأولى: أُرجع عائق التدبر إلى طبيعة النص، وهو: وجود الاختلاف فيه، فبرأ النص من وجود الاختلاف الذي يحول دون التدبر.
وفي الآية الثانية: أرجع عائق التدبر إلى طبيعة القارئ، الذي كأنما أقفل قلبه بفعل موانع تمنعه من التدبر.
فالله سبحانه نفى العائق الأول الذي يعود إلى النَّص، وأثبت العائق الثاني الذي يعود إلى قارئه.
إذًا فالقارئ أمام وظيفة (الابتلائية) في فهم النَّص، وفي ظل ذلك يمكن أن نفهم سبب وجود المحكم والمتشابه في القرآن.
فالله سبحانه عندما ذكر اشتمال كتابه على المحكم والمتشابه في قوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ [آل عمران: ٧] = بيَّن أن ما يحصل من الإشكال في التعامل مع هذا المحكم والمتشابه هو من هوى القارئ وهو ما عبر عنه ب (الزيغ)، فقال: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٧].
ويلاحظ في تعبير القرآن أنَّه عبَّر ب ﴿في قلوبهم زيغ﴾، ولم يقل «في عقولهم» إشارة منه إلى أنَّ هوى القارئ هو الذي يتحكم في عقله لينحرف في تأويل النص من اعتماد (المحكم) إلى اعتماد (المتشابه).
إنَّ العقل الذي هو أداة التأمل في النص، لكنَّها أداة عندما تتأثر بالهوى يحصل لها الزيغ والانحراف عن طريق الوصول إلى المعنى الصحيح.
والنزعة (العقائدية) قد تتحول إلى هوى فبينما يحسب القارئ أنَّه يُفسر النصِّ من أجل الوصول إلى هدايته؛ إذا به يُفسره من أجل الوصول إلى نصرة مذهبه ومعتقده.
والرازي يُرجع حكمة وجود المحكم والمتشابه إلى (الهداية)، فهو يذهب إلى عكس ما يتبادر إلى الأذهان من أن وجود المحكم والمتشابه سيؤدي إلى عدم الاهتداء لحقائق النص = فيرى أن التنوع ما بين المحكم والمتشابه سيقود الفرق المختلفة إلى الوصول لهداية الحق؛ فإنَّ التدافع العقائدي حول النص القرآني سيدعو تلك الطوائف في نهاية المطاف إلى التفتيش داخل النص لتؤيد مقولاتها، حتى إذا ما استغرقت فيه قادها النص إلى هداياته، يقول في توضيح هذه الفكرة: «لو كان القرآن كله محكمًا لَمَا كان مطابقًا إلَّا لمذهب واحد، وذلك ممَّا يُنَفِّر أرباب المذاهب المخالفة له، ويُبْعِدُهُم عن النظر فيه، ولذلك اشتمل القرآن على المحكم والمتشابه، فيطمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يقوي مذهبه، فإذا نظروا وبالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرةً للمتشابهات، وبهذا الطريق يتخلص المُبْطِلُ عن باطله، ويصل إلى الحق».
وهذا الذي يصفه قد يحصل من جهة أخرى، فربما يريد المستدل جمع الأدلة التي تدل على مقولاته العقائدية، فيجد أنَّ النص لا يدل عليها، بل يدل على عكسها، فيقوده ذلك إلى تغيير تلك القناعة واستبدالها بقناعة أخرى يجدها من خلال استقراء النص.
لكنَّنا نذهب إلى أنَّ حكمة تنوع آيات القرآن ما بين المحكم والمتشابه هي من (ابتلائية) الله في التعامل مع النص.
لكن هذا الابتلاء ليس مجردًا عن الأسباب التي تساعد على تجاوزه، بل إنَّ الله سبحانه ضمَّن في داخل النص من التدابير ما يساعد على النجاح في تجاوزه»، انتهى كلامه، وقد أظهر في البحث ما يعين على تجاوز ابتلائية الفهم، والوصول للفهم الحق، فانظره، (العقائدية)، ياسر المطرفي: (٦٩٥)، وما بعدها.

<<  <   >  >>