للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وموضع الشاهد منه: أنَّ النبي لو كان يعلم تأويلها من أول الأمر لبين لهم خطأهم ولأزال اشتباههم من فوره؛ لأنَّه لم يكن ليكتم عنهم هذا العلم وهم في أشد الحاجة إليه، ولم يكن ليتركهم في هذا الهلع الذي كاد يخلع قلوبهم وهو بهم رءوف رحيم، ولكنَّه كان مثلهم ينتظر تأويلها.

ولأمر مَا أخر الله عنهم هذا البيان، ولأمر مَا وضع حرف التراخي في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة: ١٩] (١).

[[صلح الحديبية، ودلالته على المصدرية]]

واقرأ في صحيح البخاري وسنن أبي داود (٢) وغيرهما قضية الحديبية، ففيها آية بينة: أذن الله للمؤمنين أن يقاتلوا من يعتدي عليهم أينما وجدوه، غير ألا يقاتلوا في الحرم من لم يقاتلهم فيه نفسه، فقال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٠] وما بعدها، فلما أجمعوا زيارة البيت الحرام في ذلك العام - وهو العام السادس من الهجرة - أخذوا أسلحتهم حذرًا أن يقاتلهم أحد فيدافعوا عن أنفسهم الدفاع المشروع.

ولما أشرفوا على حدود الحرم علموا أن قريشًا قد جمعت جموعها على مقربة منهم فلم يثن ذلك من عزمهم؛ لأنهم كانوا على تمام الأهبة (٣)، بل زادهم ذاك استبسالًا وصمموا على المضي إلى البيت، فمن صدهم عنه قاتلوه، وكانت قريش قد نهكتها الحروب، فكانت البواعث كلها متضافرة والفرصة سانحة للالتحام في موقعة فاصلة يتمكن فيها الحق من الباطل فيدمغه، وإنهم لسائرون عند الحديبية إذ بركت راحلة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأخذ أصحابه يثيرونها إلى جهة الحرم فلا تثور، فقالوا: خلأت القصواء، خلأت القصواء، أي: (حرنت الناقة)، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ما خلأت


(١) المقصود بحرف التراخي هنا: (ثمَّ)، فإنه حرف يدل على التراخي، بخلاف الواو مثلًا، فإنه يدل على مطلق الجمع، والفاء يدل على التعقيب والسرعة. (عمرو)
(٢) وهو حديث عظيم أخرجه البخاري: (٢٧٣١)، وأبي داود: (٢٧٦٥)، فانظره هناك. (عمرو)
(٣) «الأُهْبَة: العُدَّة، وجمعُها أُهَب، وَقد تأهَّب الرجلُ، إِذا أَخذ أُهْبَتَه»، تهذيب اللغة (٦/ ٢٤٥). (عمرو)

<<  <   >  >>