فإن العقل يقضي علينا أن نبطل ما أبطله البرهان غير مكابرين، وأن نتابعه في سيره حتى نصل إلى الحقِّ المبين.
[[نظرة للعلوم الطبيعية، وعلاقتها بالغيب]]
أما هؤلاء الملحدون فإنهم ما قعد بهم عن متابعة البحث - زعموا - إلا رعايتهم لحرمة السنن الكونية، ومحافظتهم على الأسباب العادية التي يصدر عنها كلام الناس في معقولهم ومنقولهم؛ فقد أبى عليهم وفاؤُهم لهذه العلوم الطبيعية أن يقتحموا حدودها ويخرجوا إلى التماس شيء لا تناله أعينهم، ولم يجربوا مثاله في أنفسهم، وأنت قد عرفت أن هذا الذي ظنوه وفاءً بطبيعة الأشياء قد انقلب بهم إلى ضده؛ إذ خرقوا في سبيله السياج الطبيعي للعقل الإنساني وللواقع التاريخي، فجمعوا المتناقضات وغيروا معالم التاريخ، وأرهقوا طبائع الأشياء فحملوها ما لا تطيق، فأي عاقل يرضى أن يقف موقفًا كهذا ينصر فيه عادته بإهدار عقله!!
بل الحق أن هناك مانعًا آخر يعوقهم عن متابعة السير معنا، ولكنهم يكتمونه عنا: كَبُر في صدورهم أن يعطوا مقادتهم لإنسان جاءهم من فوق رؤوسهم يزعم أنه رسول الله إليهم، فيأمرهم وينهاهم ويستوجب الطاعة عليهم، ثم هو على ذلك يواجههم بالحقائق المرة، فيحول بينهم وبين ماض هم به مستمسكون، وهوى هم له عابدون ﴿بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ [المؤمنون: ٧٠].
فلنذرهم قاعدين حيث رضوا لأنفسهم القعود، ولنتابع البحث عن هذا الحق راغبين إلى الله في الهدى إليه، وإنا إن شاء الله لمهتدون.
لا تحسبن أننا في هذه المرحلة الثالثة سنضرب في بيداء تيهاء، أو أننا سيترامى بنا السير إلى شقة بعيدة وسفر غير قاصد. كلَّا، فلن نخرج ببحثنا عن دائرة محدودة نراها مظنة للسر الذي نطلبه، وذلك بدراسة الأحوال المباشرة التي كان يظهرُ فيها القرآن على لسان محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله.
وكلنا نعرف تلك الظاهرة العجيبة التي كانت تبدو على وجهه الكريم في كل مرة حين ينزَّل عليه القرآن، وكان أمرها لا يخفى على أحد ممن ينظر إليه. فكانوا