للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[[تكملة الحديث عن أصناف الناس]]

(٦) وارجع الآن قليلًا إلى نظام الأحاديث عن الطوائف الثلاثة، لترى كيف تقابلت أوضاعها أتمَّ التقابل، فقد اشتمل الحديث في كل طائفة على ثلاثة عناصر مرتبة على هذا النمط: وصف الحقيقة الواقعة، فبيان السبب فيها، فالإخبار عن نتيجتها المنتظرة.

(فحقيقة) الطائفة الأولى أنهم قوم حصلوا فضيلة التقوى بركنيها العلمي والعملي، (سبب ذلك) استمساكهم بالهدى وإمدادهم بالتوفيق من ربهم، و (مآل أمرهم) (الفوز والفلاح).

(وحقيقة) الطائفة الثانية أنهم مجرَّدون من أساس التقوى وهو الإيمان، وأنهم مُصرون على ذلك إصرارًا لا ينفع معه إنذار، (والسبب) عدم انتفاعهم بما وهبهم الله من وسائل العلم، فلهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، (وعاقبة أمرهم) العذاب العظيم.

(وحقيقة) الطائفة الثالثة صفة مركبة من ظاهر خير وباطن سوء، فهم يقولون بألسنتهم: إنهم مؤمنون، وليس في قلوبهم من الإيمان شيء، ولكل من الوصفين (سبب) و (جزاء) أما دعواهم الإيمان (فسببها) قصد المخادعة، و (جزاءُ) الخداع عائد إليهم، وأما إسرارهم الكفر (فسببُه) مرض قلوبهم، و (جزاؤه) زيادة المرض والعذاب الأليم.

وكما بيَّن في الطائفة الثانية أنها بلغت من الإصرار والغباوة مبلغًا لا يجدي معه الإنذار، بيَّن في الطائفة الثالثة أنها بلغت من الغرور والجهالة المركبة مبلغًا لا ينفع فيه نصح الناصحين، فهم المفسدون ويزعمون أنهم المصلحون، وهم السفهاء ويزعمون أنهم الراشدون، ومن لك بشفاء سقيم يعتقد أنه سليم؟

ثم كما ختم الكلام في شأن الطائفة الأولى بأن سجل لهم وصف الهدى والفلاح، ختم الكلام في شأن الطائفتين الأخريين بأن سجل عليهما (١) وصف الضلالة والخسران.


(١) مضى جمهور المفسرين على أن قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ [البقرة: ١٦] مشار به إلى أقرب الطائفتين في الذكر، وهم المنافقون ولكن المروي عن ابن عباس وابن مسعود أنَّه راجع إلى الكفار مطلقًا، وهذا هو الذي عولنا عليه؛ لأنه أقعد في المعنى وفي النظم؛ أما في المعنى فلأنَّه لا واسطة بين الهدى والضلالة ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾ [يونس: ٣٢]، وإذا كانوا كلهم عن الهدى ناكبين، وفي الضلالة مشتركين، فتخصيص الإشارة بالبعض مع إمكان رجوعها إلى الجميع صريحًا تخصيص بغير موجب.
وأما في النظم؛ فلأن تناولها للطائفتين يتم به حسن المقابلة بين الإشارتين في قوله: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى﴾ [البقرة: ٥]، وقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ [البقرة: ١٦] ثم به يتم جمال الصنعة في تفريق الأقسام ثم جمعها، ثم تفريقها ثم جمعها، فقد رأيته يفرق الطائفتين في أوصافهما الخاصة، ثم يجمعهما في هذا الوصف المشترك، وستراه يعود إلى تفريقهما في ضرب الأمثال، ثم يجمعهما مرة أخرى مع سائر العالم في النداء الآتي: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: ٢١].

<<  <   >  >>