للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[[سبيل إدراك آية القرآن، وبرهان صدقه لمن لا يعرف الفصل بين درجات الكلام]]

فإن أحببت أن تعرف للقرآن الكريم سبقه وبلوغه الغاية في هذا المضمار وأنت بعدُ لم تُرزق قوة الفصل بين درجات الكلام فاعلم أنَّه لا سبيل لك إلى القضاء في هذا الشأن عن حس وخبرة، وإنما سبيلك أن تأخذ حكمه مسلمًا عن أهله وتقنع فيه بشهادة العارفين به، وإذًا يكون من حقك علينا أن نقدم لك مثالًا من شهاداتهم، فخذ الآن هذا المثال:

جاء الوليد بن المغيرة إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلما قرأ عليه القرآن كأنَّه رقَّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عمِّ، إنَّ قومكَ يَرونَ أَنْ يَجمَعُوا لك مالًا، قال: لِمَ؟ قَالَ: لِيُعْطُوكَهُ، فإنَّك أتيت محمدًا لِتَعْرِضَ لِمَا قِبَلَهُ، قال الوليد: قَدْ عَلِمَت قُريشٌ أَنِّي مِنْ أَكثَرِهَا مَالًا، قال: فقل فيه قولًا يبلغ قومك أنك منكر له وكاره، قال: وماذا أقول؟ فو الله ما فيكم رجل أعلم مني بالشعر لا برَجَزِه ولا بقصيده ولا بأشعارِ الجن، والله ما يشبه الذي يقوله شيئًا من هذا، ووالله إن لقوله لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنه لمنيرٌ أعلَاه، مشرقٌ أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطِم ما تحته .. الحديث (١) رواه الحاكم عن ابن عباس، وقال: صحيح على شرط البخاري (٢).


(١) للحديث بقية، وهي: «أنَّ أبا جهل ألح على الوليد، وقال له: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، فقال الوليد: دعني أفكر، فلما فكَّر قال: هذا سحر يأثره عن غيره»، وفي ذلك نزل قوله تعالى: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (١٢) وَبَنِينَ شُهُودًا (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ [المدثر: ١١ - ٢٥]، الآيات من سورة المدثر: (١١) وما بعدها.
فانظر تصوير القرآن للجهد العنيف الذي بذله الرجل في إصدار حكمه الثاني، حيث يقول: إنه فكر وقدر، ﴿ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ﴾ [المدثر: ٢١ - ٢٣]، ومعنى هذا كله أنه كان يقاوم فطرته، ويستكرهُ نفسه على مخالفة وجدانه، وأنه كان في حيرة وضيق بما يقول .. وأخيرًا استطاع أن يقول ما قال نزولًا على إرادةِ قومه.
وانظر الفرق بين هذا الحكم المصطنع وبين حكم البديهة العربية في قوله أول مرة: (إنه يعلو وما يُعلى، وأنه يحطم ما تحته).
(٢) عن ابن عباس: «أنَّ الوليد بن المغيرة جاءَ إلى النبي ، فقرأ عليه القرآن، فكأنَّه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاهُ، فقال: يا عم، إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالًا، قال: لم؟ قال: ليعطُوكَه، فإنك أتيت محمدًا لتعرِضَ لما قِبَلَه، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالًا، قال: فقل فيه قولًا يبلغ قومك أنك منكر لها، أو أنك كاره له. قال: وماذا أقول: فوالله ما فيكم رجلٌ أعلمَ بالأشعار مني، ولا أعلمَ برجزه، ولا بقصِيره مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئَا من هذا، ووالله إنَّ لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمنيرٌ أعلاه، [مغدقٌ] أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطِم [ما تحته]. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره، فنزلت: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾ [المدثر: ١١]»، قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه»، انظر: المستدرك على الصحيحين: (٥/ ٨١)، ط. المنهاج القويم، (٢/ ٥٥٠)، (٣٨٧٢)، ط. العلمية. (عمرو)

<<  <   >  >>