فانظر تصوير القرآن للجهد العنيف الذي بذله الرجل في إصدار حكمه الثاني، حيث يقول: إنه فكر وقدر، ﴿ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ﴾ [المدثر: ٢١ - ٢٣]، ومعنى هذا كله أنه كان يقاوم فطرته، ويستكرهُ نفسه على مخالفة وجدانه، وأنه كان في حيرة وضيق بما يقول .. وأخيرًا استطاع أن يقول ما قال نزولًا على إرادةِ قومه. وانظر الفرق بين هذا الحكم المصطنع وبين حكم البديهة العربية في قوله أول مرة: (إنه يعلو وما يُعلى، وأنه يحطم ما تحته). (٢) عن ابن عباس: «أنَّ الوليد بن المغيرة جاءَ إلى النبي ﷺ، فقرأ عليه القرآن، فكأنَّه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاهُ، فقال: يا عم، إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالًا، قال: لم؟ قال: ليعطُوكَه، فإنك أتيت محمدًا لتعرِضَ لما قِبَلَه، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالًا، قال: فقل فيه قولًا يبلغ قومك أنك منكر لها، أو أنك كاره له. قال: وماذا أقول: فوالله ما فيكم رجلٌ أعلمَ بالأشعار مني، ولا أعلمَ برجزه، ولا بقصِيره مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئَا من هذا، ووالله إنَّ لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمنيرٌ أعلاه، [مغدقٌ] أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطِم [ما تحته]. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره، فنزلت: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾ [المدثر: ١١]»، قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه»، انظر: المستدرك على الصحيحين: (٥/ ٨١)، ط. المنهاج القويم، (٢/ ٥٥٠)، (٣٨٧٢)، ط. العلمية. (عمرو)