للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بهذا الوجه أو ذاك إلى تهمة محققة لها مثار في الخارج أو في اعتقادهم، وإنما أرادوا أن يدلوا بكل الفروض والتقادير مغمضين على ما فيها من محال وناب ونافر، ليثيروا بها غبارًا من الأوهام في عيون المتطلعين إلى ضوء الحقيقة، وليلقوا بها أشواكًا من الشك في طريق السائرين إلى روض اليقين.

ولقد نعلم أنهم كانوا في قرارة أنفسهم غير مطمئنين إلى رأي صالح يرضونه من بين تلك الآراء، وأنهم كانوا كلَّما وضعوا يدهم على رأي منها وأرادوا أن ينسجوا منه للقرآن ثوبًا وجدوه نابيًا عنه في ذوقهم، غير صالح لأن يكون لبوسًا له، فيفزعون من فورهم إلى تجربة رأي ثان، فإذا هو ليس بأمثل قياسًا مما رفضوه، فيعمدون إلى تجربة ثالثة .. وهكذا دواليك ما يستقرون على حال من القلق. فإن شئت أن تطلع على هذه الصورة المضحكة من البلبلة الجدلية فاقرأ وصفها في القرآن: ﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾ [الأنبياء: ٥]، فهذه الجملة القصيرة تمثل لك بما فيها من توالي حروف الإضراب مقدار ما أصابهم من الحيرة والاضطراب في رأيهم، وتريك من خلالها صورة شاهد الزور إذا شعر بحرج موقفه: كيف يتقلب ذات اليمين وذات الشمال، وكيف تتفرق به السبل في تصحيح ما يحاوله من محال ﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: ٤٨]، [الفرقان: ٩].

* * * * *

[[ظاهرة الوحي، ودلالتها على المصدرية]]

والآن وقد جاوزنا بك هاتين المرحلتين من البحث، وأرينَاك أنَّه لا يوجد للقرآن مصدر إنساني، لا في نفس صاحبه ولا عند أحد من البشر، وأنَّ كل من حاول أن يجعل هذا القرآن (عملًا إنسانيًّا) أعياهُ أمره، وأقامَ الحجَّة على فشله باضطرابه ولجاجته، وإحالته ومكابرته: فقد وجب علينا أن ننتقل إلى المرحلة الثالثة لنبحث عن ذلك المصدر في أفق خارج عن هذا الأفق الإنساني جملة؛ وألا نقف بالقرآن حيث وقف به الملحدون قديمًا وحديثًا مذبذبين فيه بين هذين الطرفين يأخذون بأحدهما تارة، وبالثاني تارة، وبهما مجتمعين تارة أخرى، متنقلين هكذا من فاسد إلى فاسد، إلى مركب منهما أشد فسادًا من كليهما. كلَّا،

<<  <   >  >>