والهواء، فمنهم من يفي بذلك كله أو جله، ومنهم من يخل بشيء منه أو أشياء .. إلى فنون من الزينة والزخرف يتفاوت الذوق الهندسي فيها تفاوتًا بعيدًا.
كذلك ترى أهل اللغة الواحدة يؤدون الغرض الواحد على طرائق شتى يتفاوت حظها في الحسن والقبول، وما من كلمة من كلامهم ولا وضعٍ من أوضاعهم بخارجٍ عن مواد اللغة وقواعدها في الجملة، ولكنه حسن الاختيار في تلك المواد والأوضاع قد يعلو بالكلام حتى يسترعي سمعك، ويثلج صدرك، ويملك قلبك. وسوء الاختيار في شيء من ذلك قد ينزل به حتى تمجُّه أذنك، وتغثى (١) منه نفسك، وينفر منه طبعك.
ذلك أن اللغة فيها العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، وفيها العبارة والإشارة والفحوى والإيماء، وفيها الخبر والإنشاء، وفيها الجمل الإسمية والفعلية، وفيها النفي والإثبات، وفيها الحقيقة والمجاز، وفيها الإطناب والإيجاز، وفيها الذكر والحذف، وفيها الابتداء والعطف، وفيها التعريف والتنكير، وفيها التقديم والتأخير، وهلم جرا .. ومن كل هذه المسالك ينفذُ الناس إلى أغراضهم، غير ناكبِين بوضعٍ منها عن أوضاع اللغة جملة، بل هم في شعابها يتفرقون، وعند حدودها يلتقون.
بيد أنَّه ليس شيء من هذه المسالك بالذي يجمُل في كلِّ موطن، وليس شيء منها بالذي يقبح في كل موطن، إذًا لهان الأمر على طالبه، ولأصبحت البلاغة في لسان الناس طعمًا واحدًا، وفي سمعهم نغمة واحدة. كلَّا، فإن الطريق الواحد قد يبلغك مأمنك حينًا، ويقصر بك عن غايتك حينًا آخر، ورب كلمة تراها في موضع مَا كالخرزة الضائعة ثم تراها بعينها في موضع آخر، كالدرة اللامعة.
فالشأن إذًا في اختيار هذه الطرق أيها أحق بأن يسلك في غرض غرض، وأيها أقرب توصيلًا إلى مقصد مقصد؛ ففي الجدال أيها أقوم بالحجة، وأدحض
(١) من الغثيان، وغثت نفسه، تغثى غثيانًا، وهو: «اضطرابها حتى تكاد تتقيأ»، المصباح المنير: (٢/ ٤٤٣). (عمرو)