للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ألا إن هذا الرأي بشعبتيه لأوغل في الخطأ من سابقه (١)، وإن الأخذ به على علاته في القرآن لغفلة شديدة عن مستوى البلاغة التي تميز بها القرآن عن سائر الكلام.

فلو أن ذاهبًا ذهب يمحو تلك الفوارق الطبيعية بين المعاني المختلفة التي ينتظمها القرآن في سورة منه إذًا لجرده من أولى خصائصه، وهي أنه لا يسترسل في الحديث عن الجنس الواحد استرسالًا يرده إلى الإطالة المملة، كيف وهو الحديث الذي لا يمل؟

ولو أنه - من أجل المحافظة على استقلال هذه المعاني - ذهب يفرقها، ويقطع أرحامها، ويزيل التداعي المعنوي والنظمي من بينها، إذًا لجرده من خاصته الأخرى، وهي أنه لا ينتقل في حديثه انتقالًا طفريًّا يخرجه إلى حد المفارقات الصبيانية التي تجمع شتى الأحاديث على غير نظام، والتي لا تدع نفس السامع تستشرف إلى اختتام كلام وافتتاح كلام، كيف وهو القول الرصين المحكم؟

كلَّا، بل الحديث فيه كما علمت ذو شجون، ولكنه حين يجمع الأجناس المختلفة لا يدعها حتى يبرزها في صورة مؤتلفة، وحتى يجعل من اختلافها نفسه قوامًا لائتلافها، وهذا التأليف بين المختلفات ما زال هو (العقدة) التي يطلب حلها في كل فن وصنعة جميلة، وهو المقياس الدقيق الذي تقاس به مراتب البراعة ودقة الذوق في تلك الفنون والصناعات، فإن تقويم النسق وتعديل المزاج بين الألوان والعناصر الكثيرة أصعب مراسًا وأشد عناءً منه في أجزاء اللون الواحد والعنصر الواحد.

وعلى هذه القاعدة ترى القرآن يعمد تارة إلى الأضداد يجاور بينها، فيخرج بذلك محاسنها ومساويها في أجلى مظاهرها، ويعمد تارة أخرى إلى الأمور المختلفة في أنفسها من غير تضاد فيجعلها تتعاون في أحكامها بسوق بعضها إلى


(١) وهو تضييق دائرة البحث في المناسبات بالتماسها بين المعاني المتجاورة خاصة، فإذا أضيف إلى ذلك التزام طريق معين في المناسبة وهو أن تكون من قبيل التجانس المعنوي زادت المسألة ضيقًا وحرجًا؛ ولذلك أفضى هذا الرأي بأصحابه إلى أحد الطرفين المذمومين: التكلف أو الخروج.

<<  <   >  >>