للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فلمَّا لم يجبهم الله إلى اقتراحهم وأخَّر عنهم العذاب إلى ساعته المحدودة أطغاهم طول الأمن والدَّعة والعافية الحاضرة حتى نسوا ريب الدهر وأمنوا مكر الله، فجعلوا يستعجلون بالشر استعجالهم بالخير، ويقولون: متى هو؛ وما يحبسه لو كان آتيًا؟!

أراد القرآن أن يقول في جواب هذا الاستعجال: لو كانت سنة الله قد مضت بأن يعجل للناس الشر إذا استعجلوه، كتعجيله لهم الخير إذا استعجلوه، لعجَّله لهؤلاء، ولكنَّه قد جرت سنته التي لا تتبدل بأن يمهل الظالمين ويؤخر حسابهم إلى أجل مسمى، وعلى وفق هذا النظام المسنون سيترك هؤلاء وشأنهم حتى يجيء وقتهم.

هذا هو الوضع الذي يوضع عليه الكلام في ألسنة الناس وفي طبيعة اللغة لتأدية المعنى الإجمالي الذي ترمي إليه الآية، فانظر ماذا جرى .. ؟

١ - كان الكلام في وضعه العادي مؤلفًا من قضايا ثلاث: اثنتان منها بمثابة المقدمات، والثالثة بمنزلة النتيجة، فاقتصر القرآن على الأولى والأخيرة، أما الوسطى وهي الاستدراك - أو الاستثنائية كما يسميها علماء المنطق - فقد طواها طيًّا.

٢ - وكانت المقدمة الأولى في وضعها الساذج تتألف من أربعة أطراف: تعجيل من الله في الخير وفي الشر، واستعجال من الناس كذلك، ولكن الكلام ها هنا ليس فيه إلا تعجيل واحد من الله، واستعجال واحد من الناس.

٣ - وكانت المقابلة في التشبيه بحسب الظاهر إنما هي بين تعجيل وتعجيل، أو بين استعجال واستعجال، فأدِير الكلامُ في الآية على وجهٍ غريب، وجعلت المشابهة بين تعجيل واستعجال.

وبعد هذا التصرف كله هل ترى كلامًا مبتورًا أو طريقا ملتويًا يتعثر فيه الفهم؟ أم ترى مغزى الآية لائحًا للعامة والخاصة، كالبدر ليس دونه سحاب؟

فارجع إلى طلب شيء من أسرار البيان، وقل: كيف جاء هذا الإشراق مع هذا الاختصار البليغ؟

<<  <   >  >>