دائمًا لنظام هذه الوحدات البيانية، شاهدًا واضحًا على أن هذا القول وذاك الفعل كانا يجيئان من طريق واحدة، وأن الذي صدرت هذه الكلمات عن علمه، هو نفسه الذي صدرت تلك الكائنات عن مشيئته (١)؟
بل ليت شعري لو أن هذا الإنسان الغريب الذي جاء القرآن على لسانه كان قد أحصى ما سوف يلده الزمان من مفاجآت الحوادث المستقبلة صغيرة وكبيرة في مدى دهره، ثم قدر ما سوف تتطلبه تلك النوازل من تعاليم الفرقان، فما علمه بالنظام البياني الذي ستوضع عليه صيغة تلك التعاليم؟ ثم ما علمه أي هذه التعاليم سيكون قرينة لهذا الجزء أو ذاك؛ ليتأهَّب لتلك القرائن قبل ورودها فيودع في كل جزء ساعة نزوله عروة لائقة بقرينته المعينة، حتى إذا قدمت استمسكت بعروتها فازدوجت بقرينها ذلك الازدواج المحكم؟ ولماذا حين وردت كل قرينة وجدت من قرينها جارًا لا يجور ولا يجار عليه، ووجدت بجانبه المكان الذي ينتظرها، لا ضيقًا فيزاحمها ويتبرم بها، ولا واسعًا فتنقطع الصلة بينهما، بل وجدته مقدرًا بمقدارها، حتى لا حاجة إلى الاستدراك على الماضي بمحو حرف، ولا بزيادة حرف، ولا بتبديل وضع، وحتى لا مجال هنا لقول:(ليت .. ) ولا (لو إن .. ).
بل كيف عرف كل جزء من هذه الأجزاء أين مجموعته، وأين مستقره بينها في رأس أو صدر أو طرف: من قبل أن تتبين سائر الآحاد والفصائل .. حتى إذا تم توزيع تلك الأجزاء المتفرقة، والأشلاء الممزقة، إذا الستار يرتفع في كل سورة عن دمية حسناء كاملة الأعضاء متناسقة الحلي؟
أيُّ تدبير محكم، وأي تقدير مبرم، وأي علم محيط لا يضل ولا ينسى، ولا يتردد ولا يتمكث؛ كان قد أعد لهذه المواد المبعثرة نظامها، وهداها في إبَّان تشتتها إلى ما قدره لها، حتى صيغ منها ذلك العقد النظيم، وسرى بينها هذا المزاج العجيب؟
(١) قل كل من عند الله سبحانه، لا معقب لحكمه، ولا مبدل لكلمته.