للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

حلالًا طيبة؟ إن الذي يفهمه علماء النفس من قراءة هذا النص أنَّ - ها هنا - ألبتة شخصيتين منفصلتين، وأن هذا صوت سيد يقول لعبده: (لقد أسأتَ، ولكني عفوت عنك وأذنت لك).

وأنت لو نظرت في هذه الذنوب التي وقع العتاب عليها لوجدتها تنحصر في شيء واحد، وهو أنه كان إذا ترجح بين أمرين ولم يجد فيهما إثمًا اختار أقربهما إلى رحمة أهله، وهداية قومه، وتأليف خصمه، وأبعدهما عن الغلظة والجفاء، وعن إثارة الشبه في دين الله، لم يكن بين يديه نص فخالفه كفاحًا، أو جاوزه خطأً ونسيانًا، بل كل ذنبه أنه مجتهدٌ بذل وسعه في النظر، ورأى نفسه مخيرًا فتخير، هبه مجتهدًا أخطأ باختيار خلاف الأفضل .. أليس معذورًا ومأجورًا؟ على أن الذي اختاره كان هو خير ما يختاره ذو حكمة بشرية (١)، وإنما نبَّهه القرآن إلى ما هو أرجح في ميزان الحكمة الإلهية.

هل ترى في ذلك ذنبًا يستوجب عند العقل هذا التأنيب والتثريب؟! أم هو مقام الربوبية ومقام العبودية، وسنة العروج بالحبيب في معارج التعليم والتأديب؟!

توفي عبد الله بن أُبَيّ كبيرُ المنافقين؛ فكفَّنه النبي في ثوبه، وأراد أن يستغفر له ويصلي عليه، فقال عمر : أتصلي عليه وقد نهاك ربُّك؟ فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إنما خيرني ربي فقال: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً﴾ وسأزيده على السبعين) وصلى عليه، فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ﴾ [التوبة: ٨٠ - ٨٤]، فترك الصلاة عليهم - اقرأ هذه القصة الثابتة برواية الصحيحين وانظر ماذا ترى؟ (٢) -


(١) وما كان اختيار عمر في مسألة الأسرى ونحوها إلا مظهرًا من مظاهر الشدة التي كانت أغلب على طبعه.
وإن كادت هذه الشدة لتفتنه عن أمر الله يوم الحديبية كما سيجيء، فكانت موافقته للوحي في تلك المسائل مصادفة للحكم من غير مقدماته الحقيقية التي انفرد بها علام الغيوب.
(٢) رواه البخاري: (٤٦٧٠)، ومسلم: (٢٤٠٠)، ولفظه: عن ابن عمر، قال: «لما توفي عبد الله بن أبي ابن سلول جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله ، فسأله أن يعطيَه قميصه أن يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله ليصلي عليه؟ فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله ، فقال: يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله : «إنما خيرني الله فقال: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، إن تستغفر لهم سبعين مرة وسأزيد على سبعين»، قال: إنَّه منافق، فصلى عليه رسول الله ، وأنزل الله ﷿: ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ﴾ [التوبة: ٨٤]».

<<  <   >  >>