نعم، إنهم رأوا في هذا الأسلوب من حلاوة الفكاهة والملحة ما يُسيغ مرارة الزور والباطل، ورأوا في هذه الصورة الخياليَّة من التهكم والسخرية ما يشفي صدورهم ويجعلهم يتضاحكون بملء أفواههم، ولكنَّهم ما دروا أن في طيِّ هذه السخرية سخرية بهم، وأنهم قد شهدوا فيها على أنفسهم أنهم أجهل الأمم، وأن كل غريب عنهم - ولو كان غلامًا سوقيًّا - أهل لأن يقال عنه: إن عنده من العلم ما ليس عندهم، فيا له من نطق كان العي في موضعه خيرًا لهم وأستر عليهم، ويا له من سلاح أرادوا أن يجرحوا به خصمهم، فجرحوا به أنفسهم من حيث لا يشعرون.
أما الحقُّ الذي كانوا يخاصمونه فقد والله زادوه بهذا الاتهام قوة إلى قوته، ذلك أنهم حين خرجوا يلتمسون واحدًا من البشر يمكن أن ينسب إليه هذا العلم المحمدي لم يستطيعوا أن يفترضوا له مصدرًا تعليميًّا خارج حدود قريته، بل كان آخر جُهد بذلوه من حيلتهم وآخر سهم رموه من كنانتهم أن جاءوا من بين ظهرانيهم بهذا الغلام الذي عرفت خبره. فيا ليت شعري لو كان هذا الغلام أن يكون مرجعًا علميًّا كما أرادوا أن يصفوه، فما الذي منعهم أن يأخذوا عنه كما أخذ صاحبهم؟ وبذلك كانوا يستريحون من عنائه ويداوونه من جنس دائه، بل ما منع ذلك الغلام أن يبدي للعالم صفحته فينال في التاريخ شرف الأستاذية. أو يتولى بنفسه تلك القيادة العالمية؟ ويا ليت شعري لماذا لم ينسبوا تلك العلوم الغريبة عنهم إلى أهلها الموسومين بها من الربانيين والأحبار في المدينة أو من القسيسين والرهبان في الشام، أولئك الذين قضوا أعمارهم في دراستها وتعليمها؟ أليس ذلك - لو كان ممكنًا أو شبيهًا بالممكن - كان هو أحسن تلفيقًا وأجود سبكًا وأدنى إلى الرواج وأبعد عن الإحالة من نسبتها إلى حداد مكة؟ أم ضاقت بهم الأرض فلم يجدوا أحدًا أمثل منه ولا أعلم بالدين والتاريخ؟ تالله لولا أنهم وجدوا باب التعليم الخارجي أمنع سدًّا من سائر الأبواب وأدخل منها في معنى