للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

اليقظة العادية والروية الفكرية أكثر مما ينبعث منها في تلك اللحظات اليسيرة حينما تغشاها هذه السحابة الرقيقة التي قد تشبه السِّنة أو الإغماء.

فلا بد إذًا أن يكون وراء هذه السحابة مصدر نوراني يمد هذه النفس المحمدية بين آن وآن، فيسمو بها عن أفق شعورها المحدود، ويزودها بما شاء الله من العلوم، ثم يرسلها إلينا محمَّلة بهذه الشحنة العلمية إلى أن يلاقيها مرة أخرى.

وكما آمن الناس بأن نور القمر ليس مستفادًا من ذاته، وإنما هو مستفاد من ضياء الشمس؛ لأنهم رأوا اختلاف نوره تابعًا أبدًا لاختلاف مواقعه منها قربًا وبعدًا، فكذلك فليؤمنوا بأن نور هذا القمر النبوي إنما كان شعاعًا منعكسًا من ضوء تلك الشمس التي يرون آثارها وإن كانوا لا يرونها.

نعم إنهم لم يروها بأعينهم طالعة في رابعة النهار، ولم يسمعوا صوتها بآذانهم جَرْسًا مفهومًا وكلامًا يفقهه الناس؛ ولكنهم كانوا يرون قبسًا منها في الجبين، وكانوا يسمعون حسيسها حول الوجه الكريم، وإن في ذلك لهدًى للمهتدين.

هي إذًا قوة خارجية؛ لأنها لا تتصل بهذه النفس المحمدية إلا حينًا بعد حين، وهي لا محالة قوة عالمة؛ لأنها توحي إليه علمًا.

وهي قوة أعلى من قوته؛ لأنها تحدث في نفسه وفي بدنه تلك الآثار العظيمة ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى﴾ [النجم: ٥].

وهي قوة خيِّرة معصومة، لأنها لا توحي إلا الحق ولا تأمر إلا بالرَّشَد، فلا جرم أنها لا تكون قوة طائشة شريرة كقوة الجن والشياطين؛ إذ ما للجن وعلم الغيب ولقد ﴿تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾ [سبأ: ١٤]، وما للشيطان وخبر السماء وهي محفوظة من كل شيطان رجيم ﴿وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ﴾ [الشعراء: ٢١٠] وما بعدها.

بل نقول: أليست الأرواح جنودًا مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف؟ أوَ ليس المرء يعرف بقرينه، وشبه الشيء ينجذبُ إليه؟

<<  <   >  >>