فيه متفاوتة على مراتب شتى، فما نرى إذًا علينا من حرج أن نعدَّ الإعجاز الذي حدثتمونا عنه أمرًا مشاعًا يجري في أساليب الناس كما يجري في القرآن.
ألا ترون أن كل قائل أو كاتب إنما يضع في بيانه قطعة من عقله ووجدانه على الصورة التي تهديه إليها فطرته ومواهبه؟ وأنَّ اختلاف الناس في هذه الوسائل يتبعه ألبتة اختلاف طرائقهم في التعبير عن أغراضهم؟ إنكم لتستطيعون أن تحصوا في اللغة العربية صورًا كلاميَّة بعدة الناطقين بها، بحيث لا تجدون كاتبًا يكتب كما يكتب كاتب آخر على السواء، ولا قائلًا كذلك. بل أنتم لا محالة واجدون عند كل واحد منهاجًا خاصًّا في الأداء؛ فليس البدوي كالحضري، ولا الذكي كالغبي، وليس الطائش كالحليم، ولا المريض كالسليم. وليس الأدنى في هذا الباب يستطيع الصعود إلى الأعلى، ولا الأعلى يستطيع النزول إلى الأدنى.
بل المتشابهان فطرة ومزاجًا، المتساويان تربية وتعليمًا قد يشربان من كأس واحدة ثم لا يتناطقان بالكلام على صورة واحدة؛ فكيف تأمرون الناس أن يجيئوكم بمثل القرآن وهم لا يقدرون أن يجيء بعضهم بمثل كلام بعض؟ وكيف تعدُّون عجزهم عنه آية على قدسيته وأنتم لا تعدون عجز كل امرئ عن الإتيان بأسلوب غيره آية على أن ذلك الأسلوب صنع إلهي محض لا كسب فيه للذي جرى على لسانه؟ أليس هذا القياس يسوغ لنا أن نفترض القرآن كلامًا بشريًّا كسائر كلام البشر، غير أنه اختص أسلوبه بصاحبه كما اختص كل امرئ بأسلوب نفسه؟
وجوابنا لهذا القائل أن نقول له: لسنا نماريك في أن كلام المتكلم إنما هو صورة تمليها عليه فطرته ومواهبه، ولا في أن هذه الفِطَر والمواهب لتفاوتها عند أكثر الناس لا بد أن تترك أثرها من التفاوت في صورة كلامهم، ولا في أن تلك الفطر والمواهب إن تشابهت عند فريق من الناس فأملَت عليهم صورًا متشابهة من القول فإنَّها لا تخرجها في عامَّة الأمر صورة واحدة.
كل هذا نسلِّمه ولا ننكِره، ولكنَّه لا يضرُّنا ولا يوهن شيئًا من حجتنا؛ ذلك أننا حين نتحدى الناس بالقرآن لا نطالبهم أن يجيئونا بنفس صورته الكلامية،