للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ذلك على أن البلغاء مهما أوجفوا من ركابهم، ومهما أجلبوا بخيلهم ورجِلِهم لا يبلغ الواحد منهم بعمله غاية أمله، وإنما يصل كما قلنا إلى كمالٍ نسبي (بقدر ما يحيط به علمه، وما يؤدِّيه إليه إلهامه في الحال) أمَّا الوفاء بالمعنى حق وفائه بحيث لا يخطئه عنصر منه ولا حلية من حلاه ولا ينضاف إليه عرض غريب عنه يعد رقعة في ثوبه، ولا ينقلب فيه وضع من أوضاعه يغض من حسن تقويمه، وبحيث لا سبيل فيه إلى نقض أو اقتراح جديد؛ فذلك أمر لا يستطيع أن ينتحله رجل اكتوى بنار البيان، فضلًا عن أن ينحله لإنسان غيره.

وآية ذلك أنك تراه حين يتعقب كلام نفسه في الفَيْنَة بعد الفينة يجد فيه زائدًا يمحوه، وناقصًا يثبته؛ ويجد فيه ما يهذب ويبدل، وما يقدم أو يؤخر، حتى يسلك سبيله إلى النفس سويًّا.

ولعله لو رجع إليه سبعين (١) مرة لكان له في كل مرة نظرة (٢)، وكلما كان أنفذ بصرًا وأدق حسًّا، كان أقل من ذلك قناعة وأبعد همًّا؛ إذ يرى وراء جهده غاية هي المثل الأعلى الذي يطمح إليه ولا يطاوعه، والكمال البياني الذي يتعلق به خياله ولا يناله ﴿كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ﴾ [الرعد: ١٤].

هذا حظُّ الكلام البليغ عند قائله، فما ظنُّك بناقديه ومنافسيه؟

هذا؛ وهو إنما يعمد إلى غاية واحدة، فكيف لو عمد معها إلى الغاية الأخرى، وحاول أن يضع هذه الثروة المعنوية في لفظ قاصد؟ وأنَّى يكون له ذلك


(١) كما يروى عن زهير في تهذيب قصائده التي كان يسميها (الحوليات).
(٢) * يقول الجاحظ: «ومن شعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولًا كرِّيتًا، وزمنًا طويلًا، يردد فيها نظره، ويجيل فيها عقله، ويقلب فيها رأيه، اتهامًا لعقله، وتتبعًا على نفسه، فيجعل عقله، زمامًا على رأيه، ورأيه عيارًا على شعره، إشفاقًا على أدبه، وإحرازًا لما خوَّله الله تعالى من نعمته، وكانوا يسمون تلك القصائد: الحوليَّات، والمقلَّدات، والمنقَّحات، والمحكَّمات، ليصير قائلها فحلًا خنذيذًا، وشاعرًا مفلقًا»، البيان: (٢/ ٨).
ويقول ابن حِجَّة: «وكان زهير بن أبي سُلمى معروفًا بالتنقيح والتهذيب، وله قصائد تعرف بالحوليات، قيل: إنه كان ينظم القصيدة في أربعة أشهر، ويهذبها وينقحها في أربعة أشهر، ويعرضها على علماء قبيلته في أربعة أشهر، ويروى أنه كان يعمل القصيدة في شهر وينقحها ويهذبها في أحد عشر شهرًا، ولا جرم أنَّه قلما يسقط منه شيء»، خزانة الأدب: (٢/ ٣١). (عمرو)

<<  <   >  >>