للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

هذا مقياس تستطيع أن تتبين به في كل لسان وقلم أي القوتين كان خاضعًا لها حين قال أو كتب: (فإذا) رأيته يتجه إلى تقرير حقيقة نظرية أو وصف طريقة عملية، قلت: هذا ثمرة الفكرة.

(وإذا) رأيته يعمد إلى تحريض النفس أو تنفيرها، وقبضها أو بسطها، واستثارة كوامن لذتها أو ألمها، قلت: هذا ثمرة العاطفة.

(وإذا) رأيته قد انتقل من أحد هذين الضربين إلى الآخر فتفرغ له بعد ما قضى وطره من سابقه، كما ينتقل من غرض إلى غرض، عرفت بذلك تعاقب التفكير والشعور على نفسه.

وأما أن أسلوبًا واحدًا يتجه اتجاهًا واحدًا ويجمع في يديك هذين الطرفين معًا، كما يحمل الغصن الواحد من الشجرة أوراقًا وأزهارًا وأثمارًا معًا، أو كما يسري الروح في الجسد والماء في العود الأخضر، فذلك ما لا تظفر به في كلام بشر، ولا هو من سنن الله في النفس الإنسانية.

فمن لك إذًا بهذا الكلام الواحد الذي يجيء من الحقيقة البرهانية الصارمة بما يرضي حتى أولئك الفلاسفة المتعمقين، ومن المتعة الوجدانية الطيبة بما يرضي حتى هؤلاء الشعراء المرحين؟

ذلك الله رب العالمين، فهو الذي لا يشغله شأن عن شأن، وهو القادر على أن يخاطب العقل والقلب معًا بلسان، وأن يمزج الحق والجمال معًا يلتقيان ولا يبغيان، وأن يخرج من بينهما شرابًا خالصًا سائغًا للشاربين، وهذا هو ما تجده في كتابه الكريم حيثما توجهت؛ ألا تراه في فسحة قصصه وأخباره (١) لا ينسى حق العقل من حكمة وعبرة؟

أوَ لا تراه في معمعة براهينه (٢)


(١) اقرأ مثلًا سورة القصص وسورة يوسف .
(٢) اقرأ مثلًا قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [سورة الأنبياء: ٢٢] وانظر كيف اجتمع الاستدلال والتهويل والاستعظام في هذه الكلمات القليلة.
بل الدليل نفسه جامع بين عمق المقدمات اليقينية ووضوح المقدمات المسلمة ودقة التصوير لما يعقب التنازع من (الفساد) الرهيب، فهو برهاني خطابي شعريٌ معًا، هل تجد مثل هذا في كتاب من كتب الحكمة النظرية؟
* قلت (عمرو):
البرهان، والخطابة، والشعر، من أنواع القياس المنطقي، والبرهان: قياس يفيد اليقين، والخطابة تفيد ميل السامع إلى ما يراد منه ويركن إليه، ويقوى ذلك بفصاحة الكلام وعذوبة الألفاظ وطيب النغمة، والشعر يقصد به الترغيب، أو الترهيب، أو التشجيع، أو الحث على العطاء، أو تحريك فرح، أو حزن، أو تقريب بعيد، أو غير ذلك.
انظر: تقريب الوصول إلي علم الأصول: (١٤٨ - ١٤٩).

<<  <   >  >>