العقلاء يستطيع منذ اللحظات الأولى أن يضع تصميمه على إقامة مدينة جامعة من تلك المواد المتناثرة ومما عساه أن يجيء من أمثالها؟ وأن يبدأ بالعمل في مهمة التخطيط والبنيان؟ فما يدريه لعل هذه الظواهر لا تتكرر أمامه نزلة أخرى، ثم ما يدريه أنها إن عادت كم مرة تعود، وما نوع المادة التي تتساقط معها في كل مرة، وكم عدة القطع في كل مادة من هذه المواد، وكم عدة الأبنية التي يمكن إقامتها منها، وما النظام الهندسي الخاص بكل بناء: سعة وارتفاعًا ونقشًا وزخرفًا، وما ذرع الفضاء الذي ستشغله هذه الأبنية جملة؟ ..
في هذا الجو المملوء غموضًا وإبهامًا لا يجرؤ عاقل أن يغامر بتصميمه في بناء كوخ حقير، فضلًا عن بلد كبير، فضلًا عن أن يهب من فوره لإنفاذ عزمه فيمضي في مهمة البناء منذ وصلت إليه تلك اللبنات الأولى.
ولئن افترضت إنسانًا غامر هذه المغامرة، وأن المقادير سارعت في هواه، وأسعفته بما شاء من مواد البناء الذي تخيله وتمناه، أتراه يعمد إلى مخاطرة أخرى؛ فيتخذ له في البناء أسلوبًا يُراغِم به قانون الطبيعة، بأن يؤلي على نفسه ألا يدع لَبِنة تصل إلى يديه إلا أنزلها - في ساعة وصولها - منزلها الخليق بها حيث كان؟ ذلك على حين أن تلك اللبنات لم تتساقط إليه متجانسة مرتبة على ترتيبها في وضعها المنتظر، بل جعلت تتناثر خفافًا وثقالًا، مختلفًا ألوانها وأحجامها وعناصرها وطاقاتها، فربما وقعت له الزخارف والشرفات، قبل أن تقع له بعض القواعد والسافات (١)، وربما وقعت له على التوالي أجزاء ناقصة لتوضع في أماكن متفرقة من أبنية متنائية، أفلا تراه إن ذهب يضع كل جزء ساعة نزوله في موضعه المعين لم يجد مناصًا من أن يبدد أجزاء البناء هنا وهنا على أبعاد غير متساوية ولا متناسبة، فيقارب بينها طورًا ويباعد طورًا، ويعلو بها تارة وينزل تارة أخرى، حتى لقد يبني أعلى البيت قبل أسفله، ويمسك المحمول معلقًا بدون حامله.
فكيف يطيق بشرٌ كائنًا من كان أن يضطلع بهذه المهمة؟ ثم كيف يمضي قدمًا في هذا الأمر إلى نهايته، فلا يعود إلى جزء ما ليزيله عن موضعه الذي أحله