(فأمَّا) إن كان فرغ من نظام تأليفها وصورة تركيبها من قبل أن يستحكم له العلم بأسباب ذلك ومقاصده وأدباره وعواقبه، وإنما بنى أمره على الظن والتحسس وعلى التخيل والتمني، فذلك امرؤ بلغت به الجرأة على نفسه أن أعلن ملك ما لا يملكه وادعى علم ما ستكشف الأيام عن جهله، وما عليك إلا أن تتربص به قليلًا لترى بطلان أمره وفساد صنعته، فهيهات أن يلد الجهل نظامًا جاريًا، وإحكامًا باقيًا.
(وأمَّا) إن كان قد فصلها على علم وبصر، وأعطى كل جزء منها موقعه بميزان وقدر، فلا ريب أن سيكون نظامها مثال الإتقان وآية الجمال، ولكن واضعها إذًا لا يمكن أن يكون هو هذا الإنسان؛ إلا أن يكون قد استمدها من أفق أعلى من أفق نفسه ومحيط أوسع من محيط علمه؛ إذ أنى للإنسان وهو هذا المحكوم بطبيعة الدهر أن يكون عليها متحكمًا؟ أم كيف يتهيأ له وهو في جهله العتيد بمقدمات عمله أن يكون بنتائجها التفصيلية عالمًا؟ أفيكون بالشيء الواحد جاهلًا وعالمًا معًا؟ أم يكون من وجه واحد حاكمًا ومحكومًا معًا؟
وهل رأيت أو سمعت أن أحدًا من الكتاب أو الشعراء استطاع في مفتتح حياته الأدبية أن يحصي كل ما سيجيء على لسانه من جيد الشعر أو النثر في المناسبات المتنوعة إلى آخر عهده بالدنيا، وأن يضع من أول يوم منهاجًا لديوانه المنتظر، يفصِّله تفصيلًا لا يقنع فيه بتقدير أبوابه وفصوله حتى يقدر لكل باب عدة ما يحويه من خطاب أو قصيد، ويحدد لكل واحد من هذين مكانًا معلومًا لا يستقدم عنه ولا يستأخر، حتى إذا جاء عند داعيته رده إلى مكانه غير متلبث ولا متوقف، ثم ينجح في هذه التجربة نجاحًا مطردًا تنفذ فيه أحكامه وتتحقق به أحلامه، فيستقيم له النسق بين هذه المقطوعات كلها، من غير أن يقدم فيها شيئًا أو يؤخر شيئًا، ومن غير أن يزيد بينها أو ينقص شيئًا.
(لعمري) لئن صح هذا الفرض في أحد من البشر لصح مثله في نبي القرآن ﷺ ولكن الإنسان هو الإنسان، ومن لم يحط علمًا بما سيعترضه في دهره من بواعث القول وفنونه فهو عن الإحاطة بنصوص هذا القول أبعد، وهو عن الإحاطة بمراتب هذه النصوص أشد بعدًا، بل الإنسان حين تحفزه