للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأما أنت فأقبل بنفسك على تدبر هذا النظم الكريم لتعرف بأي يد وضع بنيانه؟ وعلى أي عين صنع نظامه؟ حتى كان كما وصفه الله ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾ [الزمر: ٢٨].

[النظم القرآني في سوره، ومجموعه] اعمد إلى سورة من تلك السور التي تتناول أكثر من معنى واحد وما أكثرها في القرآن، فهي جمهرته - وتنقل بفكرتك معها مرحلة مرحلة، ثم ارجع البصر كرتين: كيف بُدِئَت؟ وكيف خُتِمَت؟ وكيف تقابلت أوضاعها وتعادلت؟ وكيف تلاقت أركانها وتعانقت؟ وكيف ازدوجت مقدماتها بنتائجها ووطَّئت أولاها لأخراها؟

وأنا لك زعيم بأنك لن تجد البتة في نظام معانيها أو مبانيها ما تعرف به أكانت هذه السورة قد نزلت في نجم واحد أم في نجوم شتى.

ولسوف تحسب أن السبع الطوال (١) من سور القرآن قد نزلت كل واحدة منها دفعة، حتى يحدثك التاريخ أنها كلها أو جلها (٢) قد نزلت نجومًا.

أو لتقولن: إنها إن كانت بعد تنزيلها قد جمعت عن تفريق فلقد كانت في تنزيلها مفرقة عن جمع؛ كمثل بنيان كان قائمًا على قواعده فلما أريد نقله بصورته إلى غير مكانه قدرت أبعاده ورقمت لبناته، ثم فرق أنقاضًا فلم تلبث كل لبنة منه أن عرفت مكانها المرقوم، وإذا البنيان قد عاد مرصوصًا يشد بعضه بعضًا كهيئته أول مرة.

أجل، إنك لتقرأ السورة الطويلة المنجَّمة يحسبها الجاهل أضغاثًا من المعاني حشيت حشوًا، وأوزاعًا من المباني جمعت عفوًا؛ فإذا هي - لو تَدبَّرتَ -


(١) وإذا كانت هذه السور على طولها وكثرة نجومها لا يبدو عليها انفصال النظم، فما ظنك بما دونها إلى سور المفصل؛ حيث جرى التنجيم حتى في بعض القصار منها، كالضَّحى، واقرأ، والماعون، التي نزلت كل واحدة منها مفرقة على نجمين.
(٢) هذا الترديد ناظر إلى اختلاف المفسرين في سورة الأنعام، ومذهب الجمهور أنها نزلت جملة واحدة، وقد روى الطبراني وغيره ذلك عن ابن عباس موقوفًا عليه، وروى عن أبي بن كعب مرفوعًا بسند فيه ضعف على أنه لو صح ما ذهب إليه الجمهور في هذه السورة لكانت من جملة الشواهد على اتحاد طريقة النظم في المنجمات وغيرها؛ لأن نظام الانتقال بين المعاني في سورة الأنعام مثله في السور المتفق على تنجيمها، سواء.

<<  <   >  >>