للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

(و) كأن باب التحريم والتحليل في المطاعم والمكاسب كان هو أول باب فتح في الجاهلية للتشريع بغير إذن الله، ولذلك كان هو أول باب سده القرآن بعد الشرك الأكبر. فترى النهي عنه والنص عليه وبيان الحق فيه تاليًا لذكر العقائد حتى في السور المكية كسورة الأنعام (١)، والأعراف، ويونس، والنحل، وغيرها.

ومما زاد موقعه هنا حسنًا أن مجيئه في سياق ذكر التوحيد وقع عدلًا لمجيء حكم القبلة في سياق ذكر ملة إبراهيم، فكلاهما فرع عظيم يتصل بأصل عظيم. ألا ترى كيف ختم الكلام في شأنه بمثل ما ختم به هناك من وعيد المعاندين ﴿الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ [البقرة: ١٧٤]؟ أو لا ترى كيف أن الإسلام جعل مسألتي القبلة والذبائح كليهما من الشعائر التي يتميز بها المسلم من غيره. كما يتميز بالشهادة والصلاة: «من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله ورسوله» (٢).

على أن بدعة التحريم بالرأي في هذا الباب لم تقتصر على الفئة الخارجة عن الملة، بل إن بعض المسلمين في عصر النبوة كادت تصيبهم عدوى الأمم قبلهم، إذ هموا أن يترهبوا، ويحرموا على أنفسهم الطيبات من الطعام وغيره، لا تحريمًا لما أحل الله منها، بل زهادة فيها وحملًا للنفس على الصبر عنها بضرب من النذر أو اليمين أو العزيمة المصممة، فردَّ عليهم القرآن هذا الابتداع وأغلق بابه إغلاقًا، حتى لا يكون مدرجة لما وراءه، ونبههم إلى أن من قضية توحيدهم لله أن ينزلوا على حكمه فيما أحل لهم؛ قيامًا فيه بشريعة الشكر، كما


(١) اقرأ في سورة الأنعام سبعًا وعشرين آية أولها قوله: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا﴾ الآيات [١٣٦ - ١٥٣]، وفي سورة الأعراف قوله: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ﴾ [الآيتين: ٣١، ٣٢]، وقوله: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى﴾ [الآية: ١٦٩] وفي سورة يونس قوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا﴾ [الآيتين ٥٩، ٦٠] وفي سورة النحل قوله: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [الآية: ٩٥]، وقوله: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ﴾ [الآيتين: ١١٥، ١١٦].
(٢) عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله : «من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته»، رواه البخاري: (٣٩١).

<<  <   >  >>