إنه يرتكز على القول إنها فترة احتضان وتخمر للأفكار الدينية التي سبقت وضوح القرآن في الوعي المحمدي.
وبما أن فكرة تهدف لعمل واسع عظيم كالقرآن، لا يمكن التصور بأن تتحدد معالمها بين ليلة وضحاها، ويقتضي لها الوقت الضروري والطبيعي لتحضيرها، فإن هؤلاء الكتاب قد التزموا جانب الافتراض، وافترضوا لهذا الاعتزال مدة تمتد عبر سنين عديدة.
وهكذا تحتم على محمد أن يختفي منذ زواجه في سن الخامسة والعشرين، ليفرغ إلى تأملاته، ولا يعود للظهور إلا وهو يحمل رسالته ذات صباح.
وعلى الرغم من أنك جهدت في تفنيد ورفض فكرة الاعتكاف هذه، فإنك تبدو مع ذلك قد أفسحت المجال لوجود خلفية وسند مادي لها، أعني بذلك انطواء الرسول لمدة خمسة عشر عامًا.
إن فرضية غياب كهذا، ليست فحسب مجانبة لا سند لها، بل إنها غير صحيحة على الإطلاق من الوجهة التاريخية.
فالمصادر الوثيقة جدًّا تحدد في الواقع تاريخ هذا الاعتكاف بالضبط بشهر قبل نزول القرآن، كما تحدد بدقة أكثر أن هذا الشهر تخللته عودة إلى منزله مرات عدة كليما يتزود، وقد سبقت هذا الشهر أيضًا رؤى واضحة كان يراها الرسول في منامه ثم ما يلبث أن يجدها حقيقة كفلق الصبح.
لقد حدثت هذه الإرهاصات جميعها في الأربعين من عمره، أي في عام هبوط الوحي.
وإذا ذهبنا بعيدًا، وافترضنا جدلًا أن هذا الشهر من الاعتكاف، قد داوم عليه الرسول في كل عام، منذ زواجه وحتى نزول الوحي؛ يبقى أن نلاحظ بأن أحد عشر من اثني عشر شهرًا من سني حياته في هذه الفترة قد قضاها في محيط اجتماعي، وأمام أعين مواطنيه.