الضرب الأول: الكلام المحكي في القرآن عن السابقين، وكان من الممكن أن نقول إنَّ هذه الأخبار المحكية تقع بلفظ القائل، لكن ذلك يمتنع لأمور، منها: ١ - أنَّ ألسنة الماضين، لم تكن هي العربية، والقرآن إنما حكى أقوالهم باللسان العربي، فلزم من ذلك - ضرورة - ألا يكون هذا هو عين لفظهم. ٢ - أنَّا لو قدَّرنا أن ألسنتهم كانت عربية، ووجدنا ألفاظ (الحكاية لقولهم)، تختلف من سورة لأخرى، فهذا يدل ضرورة أيضًا على أن القرآن إنما ينقل عنهم مضمون كلامهم ومعناه، لا لفظه. فظهر بذلك أن ما يحكيه الله تعالى من كلام السابقين من غير المتكلمين بالعربية؛ أو من كلام المتكلمين بها، غير أن ألفاظ الحكاية اختلفت = من كلام الله، ولكنها تنسب إليهم باعتبار مضمون الكلام ومعناه. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن الحروف والأصوات التي سمعها موسى عبرية، والتي ذكرها الله عنه في القرآن عربية، فلو لم يكن الكلام إلَّا مجرد الحروف والأصوات، لم يكن بين الكلام الذي سمعه موسى، والذي ذكره الله أنه سمعه قدر مشترك أصلًا، بل كان يكون الإخبار بأنه سمع هذه الأصوات التي لم يسمعها كذب، وكذلك سائر من حكى الله في القرآن أنه قال من الأمم المتقدمة الذين تكلموا بغير العربية، فإنما تكلموا بلغتهم، وقد حكى الله ذلك باللغة التي أنزل بها القرآن وهي العربية، وكلام الله صدق، فلو كان قولهم: مجرد الحروف والأصوات، والحروف والأصوات التي قالوها ليست مثل هذه، لم تكن الحكاية عنهم مطلقًا، بل كلامهم كان حروفًا، ومعاني، فحكى الله ذلك عنهم بلغة أخرى، والحروف تابعة للمعاني، والمعاني هي المقصود الأعظم، كما يترجم كلام سائر المخلوقين» التسعينية: (٢/ ٤٦٤ - ٤٦٥). يبقى النظر - وهو الضرب الثاني - في حال من تكلم بالعربية، ونقل كلامه في القرآن، بقرائن قد توحي بكونه نص كلامهم، ككلام أهل النفاق، هل هو بلفظه ومعناه، أم بمعناه فحسب؟ فنقول: إن هؤلاء القوم من أهل النفاق كان لسانهم عربيًّا، ولم يحك القرآن كلامهم إلا في مواضع بعينها، كما في سورة (المنافقون)، والثابت في كتب الحديث والسيرة أنهم تكلموا بهذه الألفاظ، كما رواه البخاري (٤٩٠٠)، (٤٩٠١)، ومسلم (٢٥٨٤)، عن جابر بن عبد الله يقول: كنَّا مع النبي ﷺ في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين، رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا لَلأنصار، وقال المهاجري: يا لَلمهاجرين، فقال رسول الله ﷺ: «ما بالُ دعوى الجاهلية؟» قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين، رجلًا من الأنصار، فقال: «دعوها، فإنها منتنة» فسمعها عبد الله بن أبي فقال: قد فعلوها، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزُّ منها الأذلَّ. قال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: «دعه، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه». وانظر: زاد المعاد: (٣/ ٢٤٠)، والمحرر في أسباب النزول: (٢/ ١٠١٥)، وانظر تفسير الطبري: (٢٢/ ٦٦١ - ٦٦٤)، ففيه مزيد بيان. فالذي يظهر أن جزء الآية هذا من كلام أهل النفاق لفظًا ومعنى، وليس معنى هذا أن الله لم يتكلم به، بل نقله الله ﷾ بلفظه ومعناه، والله أعلم. فخلاصة الأمر: أن الكلام المحكي في القرآن على ضربين: ١ - ما حكاه الله تعالى عن غير العرب من الكلام، فإنه محكي بمعناه دون لفظه، وكذلك ما حكاه الله عن العرب، لكن اختلفت حكايته من سورة لأخرى. ٢ - أما ما حكي عن بعض العرب، واحتفت به القرائن - كأن لم يكن إلا في موطن واحد - فالذي يظهر أنه محكيٌّ بلفظه ومعناه، إذ لا معارض لهذا، ولا ينفي كون القرآن من كلام الله تعالى. وقد استفدت كثيرًا في هذا التحرير، من مباحثة مع شيخنا الدكتور طه نجا - حفظه الله -. (عمرو)