والاعتزاز به في أيّ موقف تاريخي حاسم. . .، وأول هذه المواقف ذلك الموقف الحازم الذي وقفه الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من مساومات قريش التي طالبوه من خلالها بالتخلي عن دعوتهم إلى الإسلام على أن يغدقوا عليه من الأموال ما يغنيه، وإذا كانت له رغبة في الرئاسة نصبوه لرئاستهم، وإذا كان ما يحس به مسًا من الجنون طلبوا له العلاج، فكان موقف الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- زهدًا وترفعًا في كل ما عرضوا، سواء بما كان في مقالهم من جدٍّ أو سخرية، وكذا ما حمل الإغراء بالثراء والجاه، أو التلميح بالمجابهة والقسر (١)، وكان التزامه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالإسلام مرتكزًا على أنَّه رسالة ودين {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: ٣ - ٤]. وقد سجلت مصادر السيرة هذا الموقف؛ حيث اتفقت قريش على أن يفاوض عتبة بن ربيعة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- على أمور لعله يقبل بعضها فيعطونه ويكف عن دعوتهم إلى الإسلام:(فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: يا بن أخي، إنَّك منَّا حيث قد علمت من السِّطة (الشرف) في العشيرة، والمكان في النسب، وإنَّك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرَّقت جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به ما مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تعبل منها بعضها. . .، فقال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قل يا أبا الوليد، أسمع"، قال: يا بن أخي، إن كنت إنَّما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد به شرفًا سوَّدناك علينا، حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا (ما يظهر للناس من الجن) تراه لا تستطيع ردَّه عن نفسك، طلبنا لك
(١) انظر: عماد الدين خليل: دراسات في السيرة: ص ١٠٨، (مرجع سابق).